صالح الشايجي
هل من بشر له من القدسية والعلوية والتنزه والسمو مثل ما للدين؟! .. لا أظن أن عاقلاً سيقول نعم
مَن لا يحزن:
الأوراق الصفراء.. لا تمكث طويلاً فوق الشجرة..
حتى الأشجار.. تحزن على أوراقها الصفراء..
مقدمة:
أدرك تماما أنني وبهذه السطور اللاحقة.. سأزعج من أرى في إزعاجهم راحة للضمير..
أسطورة الدولة الدينية
لست متخوفا من سطو الجماعات الدينية على الثورات العربية، سواء في تونس ومصر حاليا، أو ليبيا واليمن في المستقبل القريب، وربما أيضا في سورية.
وفي الوقت ذاته لا أخفي انزعاجي من ذلك الطنين الذي يصدر من تلك الجماعات وإزعاجاتها اللفظية ولغتها المحنطة التي تحاول من خلالها ترويج أفكارها اللاعقلانية والمتصادمة ـ لا مع الواقع فحسب ـ ولا مع تطلعات مفجري تلك الثورات وإرادات الشعوب ـ بل المتصادمة حتى مع رغباتها هي – أقصد الجماعات الدينية – وجميع المنادين بإقامة دولة إسلامية ترث الحكومات السابقة في تلك البلدان التي قوضت حناجر أحرارها وزنودهم الساخنات عروش جبابرتها فتهاوت تلك العروش كملح مسّه ماء!
أما عدم خوفي فمرده إلى الهلامية التي تقوم عليها الدعوة الى الدولة الإسلامية.
فهؤلاء المنادون بالدولة الإسلامية قد يدفعهم تدينهم والرغبة في التقرب إلى الله إلى الدعوة لإقامة الدولة الدينية، هم حريصون على كسب الثواب الذي يظنون أنهم سينالونه من وراء مثل هذه الدعوة، وقد يكونون محقين في ذلك وقد يتحقق لهم الثواب، إذا ما كان هناك ما يربط بين الثواب والدعوة إلى قيام دولة إسلامية، وإن لم يثبت مثل هذا الأمر فقد يرتد عليهم الأمر عكسيا، لأنهم ألزموا أنفسهم بما لا يلزم، ولأنهم أساءوا لصورة الإسلام وألصقوا به ما ليس منه. والإسلام جاء تاما لا يقبل زيادة من قول لم يقله ولا نافلة من فعل لم يدع إليه.
ثم وعلى افتراض صحة وجود الدولة الإسلامية وأنها ليست أمرا هلاميا، فمن أين نأتي لها بذلك الحاكم المهيّأ لحكمها والذي تجتمع فيه صفات حاكم يكون بقدر جلال الدين وعظمته وعلوه وقدسيته وتنزهه وسموه؟!
وهل من بشر له من القدسية والعلوية والتنزه والسمو مثل ما للدين؟!
لا أظن أن عاقلا سيقول نعم.. أو أن فلانا أو علانا تتوافر فيه صفات حاكم الدولة الإسلامية!
ورغم استحالة هذا الأمر، فلنفترض أن المستحيل تحقق وعثرنا على ذلك الإنسان الخارق وقام بإنشاء تلك الدولة الإسلامية، فمن يضمن لنا – وبعد عمر طويل – وبعد أن يُسلم هذا الحاكم «القديس» الروح إلى بارئها.. أننا سنعثر على آخر له القدسية ذاتها ليتمم مسيرة الدولة الإسلامية؟ والتي سنظل بحاجة إلى «قديس» كلما مات «القديس» الذي قبله.. ثم ما العمل إذا ما خلت الدنيا من «قديسين» تتوافر فيهم صفات الحاكم الإسلامي وقدراته وخلوه من الغرض الدنيوي والنزعات البشرية؟
هل في هذه الحالة سنسلم بأن الدولة الإسلامية قد انقضت لنعود بعدها إلى الدولة المدنية؟
وهل يقبل المتحمسون للدولة الإسلامية فكرة أن الدولة الإسلامية مشروع غير قابل للاستمرار؟
والأهم منهم هو الدين نفسه – وأستغفر وأعظم الاستغفار قبل القول – هل في الدين ما يشي بعدم النضوج أو عدم الاكتمال؟ استنادا لما تقدم من تعثر الدولة الإسلامية وبالصورة التي أتينا على ذكرها وتسلسلها وبصورة واقعية وخالية من الافتئات ومجردة من الخيال؟
ألسنا – والحال كذلك – نضع الدين على محك الاختبار والتجربة وهو الذي جاء كاملا غير منقوص؟
وأليس واجبا علينا تنزيه الدين والسمو به عن مثل تلك الأمور، إن كنا مؤمنين حقا؟
وفاتني أن أتساءل عن الكيفية التي سيتم اختيار الحاكم «القديس» على أساسها ومن سيختاره؟ وكيف سيُجمع عليه الناس جميعا ودون استثناء؟ وعلى افتراض أجمع عليه الناس كلهم وقت تسلمه السلطة، فماذا عمن سيولد بعد توليه السلطة؟
أم أن أهل العقد والحل هم الذين يختارونه دون بقية الناس؟
ثم من هم أولئك (أهل الحل والعقد) ومن سيصنفهم ذاك التصنيف ويضعهم في تلك المنزلة؟
وأيضا كيف يخضع «القديس» لإرادة البشر؟ وكيف ينال قدسيته منهم؟
بساط الزمن الطائر
قد يشيح البعض بوجهه ويتبرم ويكيل لي الاتهام بالتجني وعدم الإدراك ويأخذني على بساط الزمن الطائر إلى عهود الخلافة الراشدة ويقول بمنتهى البرود: أريد من هذه! أي أنه يريد «الخلافة الراشدة» أو حكما على طريقة الخلافة الراشدة.
من لا يريد أن يفكر تفكيرا واقعيا ومن هو ليس موضوعيا يسوق مثل هذا الحديث من باب تبرئة الذات أو أنه ينقل ما سمعه من الآخرين لأنه غير قادر على التفكير وتنقصه المعرفة ويعوزه الفهم.. لأنه لم تكن حينذاك دولة.. ولم تقم ولا حتى في العصور التي أعقبت الخلافة الراشدة دولة.. وكل ما في الأمر أن هناك مجتمعا كان يتأسس وفق صياغة جديدة وطارئة عليه وأعني بالصياغة الجديدة.. الدين الإسلامي.. لذلك تسيد هذا المجتمع وأمّه – ولم يحكمه – الأكثر فهما ومعرفة بقواعد الدين والأقرب منهم لحامل الرسالة والأكثر مخالطة له، من أجل ترسيخ قواعد هذا الدين وتثبيته.. وليس من أجل الحكم.
والدليل شديد الوضوح على عدم وجود دولة للخلفاء الراشدين، وذلك لا يُنقص من شأن الخلافة..فللدولة مقومات وأركان ومؤسسات لم تكن موجودة في حينها..مثل عدم وجود حكومة يمثلها مجلس وزراء.. وليس هناك دستور ولا وزارات ولا مجلس نيابي..
ولم يعرف العالم حينها المجتمع الدولي وما يربط الدول من اتفاقيات وقوانين دولية.. ولا التمثيل الديبلوماسي..
ولم تكن هناك خدمات تقدمها الدولة مثل التعليم والتطبيب وشق الطرق وإقامة المنشآت والخدمات الاجتماعية وكل ما تقدمه الدولة في مفهومها الحديث.
بماذا تتنافس الدول؟
إذن كيف نستشهد بشيء غير موجود أصلا لنطالب بتطبيقه؟!
إن الدولة الحديثة لها مقوماتها وأركانها التي تقوم عليها.. وتقدّم دولة ما وتأخّر أخرى يكون تبعا لحالة الرفاه التي تعيشها الدولة ومستوى التعليم فيها ورفدها للحركة الحضارية في العالم وبقدر اقترابها من تلك المكونات ومن اكتمالها المؤسسي.
في هذه تتبارى الدول وتتنافس، لا بالخروج من العصر والبحث في المجهول ومحاولة التفتيش في المستحيل والتمثل بنموذج لا وجود له ولم يقم يوما.. لم تشرق عليه شمس قط ولم يبزغ في سمائه قمر أبدا..
أبواب التشريع
أما إذا كانوا يقصدون بالدولة الإسلامية تطبيق الشريعة الإسلامية وبالذات في جانب الحدود والتعزير.. فجزء يسير من هذا القول جائز أما معظمه فمستحيل.
الشريعة الإسلامية باب من أبواب التشريع ويمكن الأخذ منها بما لا يجرحها ولا يجعلها في محل مظنة، وبما يتماشى مع ما استقرت عليه قوانين العصر الحديث وطرائق تفكير الناس وما وصلت إليه البشرية حتى لا يبدو الأخذ بها نوعا من الإجبار الضار أو غير المستحب وما لا يجلب منفعة للمسلمين، وإنما يتم تفعيلها والأخذ بها لمجرد أننا مسلمون وبالتالي مجبرون على العمل بها، وما لذلك كانت الشريعة، ثم إنها – الشريعة الإسلامية – ليست خاصة بالمسلمين فهي كأي معطى إنساني آخر وكأي فكر إنساني مفتوح للجميع ولكل الأمم من كل دين وملة ويأخذ منها من رأى فيها ما يناسبه بغض النظر عن كونه مسلما أو غير ذلك.
وقد لا تأخذ بها طائفة من المسلمين بينما تأخذ بها طائفة أخرى وكذلك قد تأخذ ببعضها طائفة من غير المسلمين.
ولعلنا نتذكر جميعا قولة الإمام «محمد عبده» عن باريس حين قال «وجدت فيها إسلاما ولم أجد مسلمين»..
والشريعة بمفهومها العام هي الطريقة أو السلوك.. ولا تعني فقط القوانين، ولذلك وجد الإمام «محمد عبده» الفرنسيين يطبقون الشريعة الإسلامية بسلوكهم وأخلاقهم دون أن يكونوا مسلمين.
أما الادعاء بأن دولة الخلافة كانت تطبق الشريعة فذلك مردود عليه بما سبق قوله وهو أن الخلافة لم تكن دولة والخلفاء لم يكونوا يديرون دولة بل كانوا يحكمون بين الناس بما كان بين أيديهم من تشريع ولم يكن آنذاك سوى القرآن والقياس على ما كان يفعله النبي محمد صلى الله عليه وسلم وقبل أن تنشأ الشريعة بالصورة التي وصلت إلينا الآن وهي اجتهادات أئمة وفقهاء في أزمنة لاحقة ومتفرقة، ثم لا ننسى أن الخليفة عمر بن الخطاب قد اجتهد بوجود النص لا بعدمه وذلك حين أبطل حد السرقة فيما يسمى «عام الرمادة» وإن كان عمر فعل ذلك مستندا الى ما له من رصيد وإرث يتمثلان بمكانته الإسلامية وصحبته للرسول صلى الله عليه وسلم فهل يستطيع الخليفة الجديد ـ الحاكم القديس ـ فعل ذلك؟
هويّات الدول
وتشكيل الدولة الإسلامية.. لا يتحقق ـ فقط ـ بكون قوانينها إسلامية وبكون حاكمها «قديسا».. ولا أن النخبة فيها مطهرة ومنزهة.. بل إن الأمر يتجاوز الحاكم وبطانته وحاشيته.. إلى رئيس الوزراء والوزراء ووكلاء الوزارات والوكلاء المساعدين والمديرين والموظفين والعمال والمساعدين.. لابد لهؤلاء جميعا أن يتحلوا بالقدر ذاته من ذلك السمو الديني حتى لا يأتي أحدهم بما يجرح الدين سواء في فعل يفعله أو في قول يقوله..كما أن شعب هذه الدولة لابد أن يتحلى بمثل تلك الصفات ولابد أن يكتمل اقتناعه بهذه الدولة حتى لا يخرج عن طوعها فيكون عاصيا.. والدول تأخذ هوياتها من شعوبها لا من حكامها..
والدين – كما نعلم – إيمان مستقره في القلب وليس تظاهرا ونفاقا واتباعا لمصلحة..
والمؤمن ليس إمعة تقوده أهواء الذين يزيّنون القبيح ويقبّحون الحسن..
«عمر» والمرأة
وقولة «لا» في الحق هي رأس الإيمان..ولم تخش امرأة من قولة «لا» في وجه عمر وهو الخليفة..ولم يأنف هو من أن يعترف لها بالصواب فيطلق مقولته الشهيرة: أصابت امرأة وأخطأ عمر..
ومثلها ذلك الرجل الذي أبدى تشككه في ذمة أمير المؤمنين الذي اكتسى من بيت المال بثوب يغطي بسطة جسمه وهو الطويل الناهض السامق.. فما كان من عمر إلا أن يُشهد ابنه الذي كان قد تخلى عن بعض سهمه من بيت المال ليعطيه لأبيه حتى تكون كسوته كاملة تغطي جسده كله..
ورغم أنني لا أميل إلى تصديق مثل تلك الروايات واعتبرها نوعا من الحملات الدعائية ـ كما نسميها في زمننا هذا ـ خلقتها أجهزة الدعاية الإسلامية اللاحقة وأشاعتها.. فإنني أوردها ـ وقد استقرت في أذهان الناس وجرى تصديقها ـ كمثل على فسحة في الفكر الديني لقولة «لا»..
قصدت من ذلك أن الإيمان تصديق لا تبعية.. وإن كان عمر وهو من أقرب الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم وثاني الخلفاء وهو الذي أوقف العمل بحد من حدود الله قد أخطأ وصوبته امرأة.. وثار شك حول ذمته المالية.. إذن كم «لا» ستقال لـ «حاكمنا القديس» وكم من خطأ سيخطئه؟ وكم من شك سيثور حول ذمته المالية؟ وهو الذي ليس صحابيا من الصحابة ولا من التابعين ولا حتى من تابعي التابعين؟
لماذا كتبت؟
لست بما كتبته في السطور السابقة أستحضر خيالا منثورا في الهواء.. ولا حاملا سراجا أدور فيه بين الخلق..ولكنما كتبت ما كتبت.. لأن هناك من يهذي بمثل هذا الأمر ـ أقصد مشروع الدولة الإسلامية ـ وسقت حججي وبراهيني بما يتفق مع فهمي.. ومع قدرتي الاستيعابية التي كونت عندي تلك الآراء التي سقتها في سطور أحسها «يابسات».. من أجل محاربة من يدعي بأمر جلل ويدعو إليه.. مهوّناً إياه ومستهينا به.. ويشيعه بين الناس كـ «كلمة حق» ولكنه يريد بها باطلا.. ولأقول أيضا إن الداعين إلى قيام دولة إسلامية.. إما أنهم كاذبون أشرون «يشترون بآيات الله ثمنا قليلا»..
وإما أنهم بله سُذّج خُدّج.. يُسفّهون أو يُزجرون..
أو هم منافقون أشرار تُقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف وينفون من الأرض..
ومن أراد زيادة علمية في فهم الدولة الإسلامية أحيله إلى ما كتبه الكاتب «سيد القمني» الذي وضع دستورا كاملا للدولة الإسلامية.. فمن أراد فهما ومن طلب علما فدونه «القمني»..فعنده الخبر اليقين.
أضف تعليق