أقلامهم

تخلي السلطة عن مشروع إسقاط الدستور لا يكفي
“ناصر”.. هو العنوان!

في الأردن والمغرب.. اتخذت الأسر المالكة قرارها بالتخلي عن بعض سلطاتها مقابل إطالة عمرها السياسي.. وسواء تم ذلك بشكل طوعي أو قسري.. ذاتي أو بناء على نصائح غربية، فإن حكم الأسر المالكة في المنطقة العربية دخل مرحلة جديدة، ولست أرى الأسر المالكة في دول مجلس التعاون بعيدة عن الدخول في تلك المرحلة.. المسألة مسألة وقت فقط. وفي تقديري فإن الكويت سوف تشهد هذا التطور في نهاية العهد الحالي أو في بداية عهد الشيخ نواف الأحمد.

الجزء الأول من “الموسم السياسي” المحلي لهذا العام قارب على الانتهاء.. هناك حاجة ملحة للتفكير والتدقيق والتأمل في أحداثه، فالبادي أن الجزء الثاني قد يشهد تطورات سياسية مهمة. في هذا المقال أحاول رصد بعض المتغيرات الجوهرية التي طرأت ونتائجها المحتملة، وأبدأ بتحليل أهم فقرة وردت في الخطاب الأخير لصاحب السمو أمير البلاد.

جاء في الخطاب: “لقد أكدت مرات وأجدد التأكيد على أنني من يحمي الدستور ولن أسمح بأي مساس به فهو الضمانة الحقيقية لاستقرار نظامنا السياسي والدعامة الرئيسية لأمن بلدنا..”، فماذا تعني هذه العبارة؟ ماذا يعني هذا التعهد المحمود من قبل رئيس الدولة شخصيا بحماية الدستور وعدم السماح بالمساس به؟ أميل هنا إلى تبني الرأي القائل بأن هذه “التعهد الأميري” يكشف عن تخلي السلطة بشكل نهائي عن فكرة تنقيح الدستور، وهي الفكرة المركزية التي سعت السلطة إلى تنفيذها منذ بداية عهد المرحوم الشيخ صباح السالم في العام 1965 ولغاية نهاية العام الماضي حين استقدمت أحد الخبراء من مصر وعهدت “بمقاولة” تنقيح الدستور إلى أحد النواب. كما يكشف هذا التعهد أن السلطة، وعلى ضوء تطور ردود الفعل الشعبية التي تمثلت في “الخروج إلى الشارع”، وبتأثير الثورات العربية أيضا، تبنت فكرة التمسك بالدستور والدفاع عنه لا سيما بعد أن بدأت بعض القوى السياسية تطالب بتعديله نحو المزيد من الحريات وبعد أن برزت المطالبة بما يسمى “بالحكومة الشعبية”. أي أن السلطة أدركت أخيرا أن مصلحتها تتطلب التمسك بالدستور الحالي واعتباره “الحد الأقصى” لما يمكن القبول به من جانبها خوفا من تنامي الرغبة في تعديله والاتجاه نحو النظام البرلماني الكامل الذي يترتب عليه تقليص كبير لسلطة الشيوخ. وبالطبع لا يمكن أن ننسى أن نجاح رئيس مجلس الوزراء الشيخ ناصر المحمد في السيطرة على قرار الأغلبية في مجلس الأمة، ونجاحه في “تحييد” الإعلام الخاص أو استمالته وتطويعه، ونجاحه في التحالف مع بعض القوى السياسية الانتهازية، ونجاح الإعلام الفاسد في دق الأسافين بين فئات المجتمع.. كل ذلك جاء “كبديل ناجح” يغني عن فكرة تنقيح الدستور.

على كل حال.. المهم في الأمر هو أن السلطة انتقلت من مرحلة الهجوم على الدستور إلى مرحلة الدفاع عنه والتمسك به. وفي تقديري الشخصي أن تمسك السلطة بالدستور سوف يتعاظم نتيجة التطورات السياسية الدستورية التي جرت في كل من المملكة الأردنية والمملكة المغربية، وهي تطورات تهدف إلى إطالة عمر الأسر المالكة مقابل التخلي عن جزء رئيسي من سلطاتها.

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: هل تمسك السلطة بالدستور وتخليها عن مشروع إسقاطه يمثل الحد الأقصى “للتنازل” الذي يمكن أن تقدمه؟ وبصياغة أخرى: هل التمسك الشكلي بالدستور، بالتزامن مع جهود إفراغه من محتواه، تعصم السلطة في الكويت من رياح التغيير وتغنيها عن تقديم تنازلات مماثلة للتنازلات الأردنية والمغربية؟

في تقديري الشخصي فإن مجرد تخلي السلطة عن مشروع إسقاط الدستور لا يكفي، فالسلطة تعاني من أزمة خطيرة عنوانها عدم الكفاءة في إدارة شؤون الدولة، فالمطالبة الشعبية بإقالة رئيس مجلس الوزراء ليست وليدة عداء السلطة للدستور بقدر ما هي نتاج أزمة الكفاءة. فضلا عن ذلك فإنه لا قيمة للتمسك الشكلي بالدستور في الوقت الذي تدار فيه البلاد بواسطة الفساد المالي والسياسي لتغطية أزمة الكفاءة. وبعبارة أخرى يجب الاعتراف بأن الشيخ ناصر المحمد هو جزء من أزمة السلطة وليس كل أزمتها، ورحيله هو جزء من الحل لا الحل كله. إن الشيخ ناصر المحمد هو عنوان أزمة السلطة وليس مضمونها. ومن الواضح أن السلطة تدرك هذه الحقيقة لذلك بدأت بتقديم التنازلات.. إن التضحية بالشيخ أحمد الفهد هو بداية التنازلات بصرف النظر عن التفاصيل، وفي تقديري سوف تضطر السلطة إلى تقديم المزيد، ولدى السلطة أكثر من “ورقة تضحية”، فالشيخ ناصر المحمد هو الآخر “ورقة” يمكن للسلطة أن تتنازل عنها في نهاية المطاف كبديل للقبول بفكرة التعديل الدستوري والتوجه صوب النظام البرلماني الكامل بعد أن تتنازل عن “ورقة رياضة الشيوخ” و”ورقة تجارة الشيوخ” و”ورقة إعلام الشيوخ” و”ورقة الوزارات السيادية للشيوخ”.. إن هذه التنازلات قادمة لا محالة والمسألة مسألة وقت ومناسبة لا أكثر، فالشيوخ يدركون أن الاحتجاجات الشعبية والبرلمانية ليست موجهة ضد الحكومة بل هي موجهة ضدهم باعتبار أنهم يملكون السلطة الفعلية.. فلا قيمة سياسية مستقلة لمجلس الوزراء في الكويت، وقرار الأغلبية في البرلمان “مسروق”، والقرار مركزي بيد الشيوخ وحدهم بمعاونة، أو تحت تأثير، حلفاء يمثلون قمة الفساد السياسي والمالي وقاعدته في البلاد. إن شعار “الشعب يريد إصلاح النظام” الذي هتف به الشباب خلال اجتماعاتهم العامة يعني وجوب إعادة ترتيب العلاقة بين الشعب والأسرة الحاكمة.

إن تاريخ الكويت لا يكشف عن مبادرة تلقائية من جانب الشيوخ، لكنه يؤكد استعدادهم للتجاوب مع الضغط الشعبي.. فلدى شيوخنا في نهاية المطاف نزعة “براغماتية” تحول دون انكسارهم.. فحتى لو اعتصموا “بالعناد” والتشدد في البداية، فإنهم يتقبلون في النهاية تقديم التنازلات.. ومع ذلك فإنني لا أريد المراهنة على “استجابتهم” بل أتمنى “مبادرتهم” قبل فوات الأوان.. فأنا أتوقع أن يتطور العمل السياسي الشعبي ويترسخ منهج الاحتجاجات العامة، فإذا كانت السلطة قد انتقلت من مرحلة الهجوم على الدستور إلى مرحلة الدفاع عنه، فإن “المعارضة” سوف تنتقل حتما من مرحلة الدفاع عن “المكتسبات الدستورية” التي لازمت مرحلة عداء السلطة للدستور إلى مرحلة الهجوم “الإصلاحي”، أي المطالبة بنظام برلماني كامل سواء عبر تعديل الدستور أو من خلال تكريس تقاليد برلمانية.

إنني أرى الكويت مرشحة للحاق بركب الأردن والمغرب.. وخير لنا ولشيوخنا أن نصلح النظام بأنفسنا لا بناء على نصائح غربية!

للحديث تكملة بإذن الله تعالى،

محمد عبدالقادر الجاسم