أقلامهم

أزمة الجامعة تكشف الوجه الآخر لما نعيشه من أزمات رغم الوفرة المالية.. جاسم بودي

جاسم بودي

أزمة الجامعة… جامعة

أزمة قبول خريجي الثانوية العامة في الجامعة ليست محصورة بالقطاع التربوي فحسب لكنها يمكن أن تكون مرآة تعكس أزمة التخطيط في الكويت عموما وغياب الرؤية وعدم التبصر بعواقب القرارات السريعة والمسكنات الهادئة.

ببساطة، عدد خريجي الثانوية العامة يزداد عاما بعد عام. الجامعة لم تعد تستطيع استيعاب الجميع وقدرات الأسر متفاوتة في إرسال الأبناء لمتابعة التحصيل العلمي في الخارج او تسجيلهم في جامعات خاصة، كما ان الابتعاث الرسمي له حصص معروفة.

لا يحاول أحد أن يقنعنا بأنه كان يتوقع ان ينخفض عدد الخريجين ولذلك تم التقاعس في موضوع بناء جامعة متطورة ومدها بكل الكفاءات العلمية اللازمة والتجهيزات الحديثة. ولا يحاول احد ان يقنعنا بأن الامكانات المالية والفنية اللازمة لهذا الأمر غير متوافرة في بلد مثل الكويت. ولا يحاول أحد أن يقنعنا أن قضية تعليم أبنائنا كانت مشروع أزمة بين حكومة ومجلس، فالتربية ليست مناقصة والتعليم ليس صفقة والثروة البشرية هي الثروة الحقيقية التي لا نعتقد أن أي عاقل يخالفنا الرأي حولها.

اذاً، المشكلة تكمن في أن المكلفين بالتخطيط اما انهم تعاملوا مع القضية على أسس «تنظيرية» من دون قرارات تنفيذية، وإما أنهم رسموا الاستراتيجية الصحيحة لكن الحكومات لم تعرها الأهمية المطلوبة لانشغالها بالأمور السياسية، او لأن الحلول الترقيعية تسيدت المشهد فأعطي القطاع التربوي «مسكنات» أو «منشطات» لكن الحلول العملية غابت… وربما كانت الكويت أكثر دولة في العالم تتحدث عن الخطط ووضع الخطط ورسم الخطط من دون أن نسمع مرة واحدة عن متابعة الخطط ومواكبة التنفيذ.

اليوم، نواجه مشكلة حقيقية. حتى الآن بوادر حلها لم تختلف عن السابق. يحتج الطلبة وأولياء الأمور على حرمانهم من مقاعد الجامعة. يواكب عدد من النواب هذا الاحتجاج ويحوله إلى أسئلة ومادة للتصعيد السياسي. يجتمع مجلس الوزراء ويقرر، كما حصل، رفع نسبة القبول. ثم تخرج أسماء الابتعاث ويبقى من يبقى ليضاف إلى منتظري المقاعد، ثم يجتمع مجلس الوزراء مجددا ليبحث مخارج جديدة سواء عبر انتظار الفصل الثاني أو عبر دوام ليلي او عبر المساعدة على انضمام الطلبة إلى الجامعات الخاصة… ويمكن أن نجزم أن المشكلة ستكبر العام المقبل إذا بقينا في مثل هذه الدائرة وربما سمعنا عن اقتراح يقضي بإقامة دوام ثالث لطلبة الجامعة من مطلع الفجر وحتى ساعات الصباح الاولى.

نتذكر جامعة الشدادية. مشروع في دولة أنعم الله عليها بما أنعم من ثروات ما زال في الأدراج منذ عقود والأسباب متعددة وبعضها مضحك مثل القول إن الحرم الجامعي يجب الا يكون في مكان واحد رغم أنه كذلك في دول كثيرة. أسباب وحجج وتبريرات لكن النتيجة دائما ضمن معادلة غياب الرؤية فإن حضرت غاب التخطيط، فإن حضر غاب التنفيذ، فإن حضر حضر التجميد… وهكذا إلى أن تكبر الأزمات وتصل إلى طريق مسدود.

وما يحصل في القطاع التربوي يحصل مثله في مختلف القطاعات وتحديدا الصحة والخدمات والمواصلات. كم كويتياً أو وافداً يطلب واسطة لتأمين سرير له في مستشفى حكومي كل يوم؟ من هو الكويتي الذي تصله رسائل بريدية في الوقت المحدد؟ هل توسعة المطار صممت لما هو مطلوب بعد 20 عاما على الأقل أم أنها صممت لاستيعاب بضعة آلاف ثم نعيد العمل لتوسعة أكبر فأكبر؟ ترقيع في كل القطاعات ستدفع الأجيال القادمة أثمانه الصعبة.

قلنا سابقا ان الوفرة المالية أمر ممتاز نشكر الله عليه صباحا مساء، لكن العقول والرؤى والاستراتيجيات والإرادة والتصميم هي الأمور التي تنقلنا من زمن الى آخر. وأزمة الجامعة الحالية دليل على ذلك. والحل يكمن في ان تقر الحكومة بعقم المعالجات السابقة وتبدأ سياسة «تنفيذية» حقيقية للمشاريع، وأن يركز مجلس الأمة على كل ما يخدم المستقبل لا على الخطاب الشعبي الذي يحقق مصالح انتخابية آنية، وأن تتعمم اجهزة المتابعة على كل الدوائر والقطاعات لأن البيروقراطية والتراخي والإهمال من الصفات الشرق أوسطية بامتياز.

أزمة الجامعة واحدة من أزمات كثيرة مقبلة. ماذا ستفيد الوفرة المالية الكويتيين إذا كانوا لا يستطيعون تعليم أبنائهم او تأمين علاجهم؟ ماذا ستفيدهم الطرق والجسور والمباني العالية؟ هذه ليست تنمية لأن التنمية يقودها إنسان وليس حفّارة ويستفيد منها إنسان وليس سيارة.