أقلامهم

السعدون يحذر من الحصاد المر للبننة الكويت

جاسم خالد السعدون
الداء والدواء
في ثلاثة أسابيع من عام 2003، وبخطة عسكرية محكمة، ضمنت الولايات المتحدة الأميركية احتلال العراق بأقل التكاليف الممكنة، ولكن ما لم يكن ضمن حساباتها هو كيفية إدارة الدولة المدنية خلال المرحلة الانتقالية.
واضطرها الفراغ الضخم بعد تحقق الهدف العسكري، إلى سحب حل جاهز من على الرف، فكان خيار لبننة العراق؛ رئاسات ثلاث تتقاسمها الطوائف. وكانت النتيجة، هي الفشل الذريع، ليس قياساً فقط بعدد الأرواح التي أزهقت من كل الأطراف، ولا بالتكاليف المالية الضخمة للعملية دون إنجاز حقيقي يرضي الناس، وإنما بانتهاء الانسحاب أميركي مع نهاية العام الجاري، مع استمرار نفوذ خصمها اللدود إيران أكبرَ من نفوذها.
خيار اللبننة، حوَّل لبنان الجميل المليء بالمواهب، في المهجر، إلى بلد لا يكاد يخرج من حرب أهلية، حتى يدخل حرب الوكالات، حيث يصبح كل سياسي أو مفكر هناك برسم الاغتيال.
ولبنان الديمقراطي، هو مَن اخترع مصطلح الثلث المعطل، والديمقراطيات لا يعطل قرارها الثلث، ولكن التوافق بين الطوائف، أو موكليها، شبه مستحيل، بما حول الهدف، بدلاً من البناء، إلى القدرة على التعطيل. وأن يختار الأميركان خيار اللبننة للعراق، خطأ جسيم، ولكنه يظل تجربة في بلد آخر، ولعلهم استفادوا من دروسه الأليمة في حالة ليبيا مؤخراً، ولكن، أن يختار أبناء الوطن لبننة وطنهم، تلك جريمة لا تغتفر.
وفي الدول الديمقراطية، وعنوان الديمقراطية ميزة الكويت الوحيدة والأساسية مقارنة بجوارها الجغرافي، هناك أحد خيارين، إما إدارة ديمقراطية، أي حكم مؤقت لأغلبية ضمن دورة انتخابية معلومة، وإما إدارة محترفة مهنية تحت ضغط ظروف استثنائية، أو توافق على حكومة وحدة وطنية واسعة في حال الأزمات، أو توقعات بأزمة حادة، لكن لا هذا ولا ذاك متبع في الكويت. لقد اختار أبناؤها لبننتها سياسياً واجتماعياً، وأوضاع الكويت أكثر خطورة، لأن الإدارة السياسية فيها ليست فقط سياسية، بل تتحكم بقدر الدولة اقتصادياً، كما أن ثروتها ناضبة لا دائمة، وحصيلتها أموال سيادية في يد سلطة تتفنن في تبديدها.
في الكويت، التي فيها دور السلطة التنفيذية طاغ، فهي تتحكم في المال والأمن والوظيفة، تبدأ اللبننة مع تشكيل مجلس الوزراء، حيث يتقاسم رجال في الأسرة، خمسة إلى ستة مناصب رئيسية، ثم، من باب عدالة الاقتسام، توزع بقية الحقائب مناطقياً وطائفياً وقبلياً. وفي معظم الأحوال، سوف يقاتل مَن يحصل على هذا المنصب الرفيع، ضمن الفئة التي كانت السبب في حصوله على المنصب، ومن أجلها، لذلك يمتد مرض اللبننة إلى كل مؤسسات الدولة الأخرى، فتهدر مصالح الدولة وأولوياتها، وتتصدر العمل العام أولويات تلك الفئات.
وليت ذلك يحفظ لتلك الفئات تماسكها ومستقبلها، فمن دون دولة لا مستقبل لها، ولنأخذ الأسرة الحاكمة مثالاً، فأشد الضرر لا يأتيها من عامة الناس، وإنما من صراع على منصب غير مستحق بين أفرادها أو ضمنهم، وأقلهم استحقاقاً، أكثرهم شراسة في تلك الحرب، والتاريخ قاطع بأن أشرس الصراعات على السلطة هو بين الإخوة وأبناء العمومة، لذلك كانت بريطانيا العظمى سباقة منذ أربعينيات القرن السابع عشر إلى اختراع مخرج سلمي لها.
وفي سبيل منصب غير مستحق في الكويت، تزداد وتيرة إفساد السلطات الثلاث، وفي سبيل تفويت جرعات الفساد الزائدة، لا بأس من بعض الزيت، أو رشوة كل الناس، أما المستقبل والصغار، فلهما الله، الذي لا يحمد على مكروه سواه.
قاد مشروع لبننة العراق سيئ الذكر، كل من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، بينما اللبننة محرمة لدى كلتيهما، ففي يناير 2009، أصبح نصف أسود نصف مسلم رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، وفي عام 2010، تحول رئيس وزراء بريطانيا الأسبق توني بلير عن المذهب البروتستانتي، أو مذهب الأغلبية في بريطانيا، إلى المذهب الكاثوليكي، دون ضجة تذكر.
إنه داء عظيم، أن يتقلد منصباً تنفيذياً رفيعاً مَن يدين بحصوله عليه لانتمائه الفئوي، لا لتفويض الأغلبية أو نتيجة قدراته المتميزة.
إنه داء عظيم، أن يُحرَم وطن جميل ذو ثروة مؤقتة من استغلال عنصر وقت قصير لا يعوض، دون تحويل ثروته إلى دائمة بسبب عجز إدارة رابطة الدم.
إنه داء عظيم، أن يعمل مفهوم الإدارة برابطة الدم على تخريب مفهوم المواطنة الشاملة في وطن صغير وجميل، تعداده لا يتعدى تعداد حي في الصين الموحدة.
إنه داء عظيم، أن يكون اختيار صلب الإدارة العليا للوطن، لا برابطة الدم فحسب، بل بالجنس أيضا (ذكراً) وضمن تسلسل العمر أو السن.
إنها ببساطة “لبننة” الكويت، ولكن بخيارات أضيق، وفي بلد ثروته مؤقتة. والمفارقة هي أن الدواء لا يحتاج إلى معجزة، فرغم أن الفارق بين “الداء” و”الدواء” في لغتنا العربية الجميلة هو حرف “الواو” فقط، فإننا نلحظ جميعاً فارقاً كبيراً بين وضع الكويت المحبط الحالي، ووضعها بعد سنة من الآن، لو ركزنا فقط على قلب مفهوم بناء الإدارة العليا.
وللمطالبين بتغيير شخص أو بضعة أشخاص، أكاد أجزم بأن التغيير إذا اقتصر على الشخوص فسيكون الحصاد مراً، فالخطيئة في النهج أو المفهوم، وما سيحصل عليه البلد عندئذ، هو ولادة أزمة أخرى، ربما أشد، وبعد فوات وقت لا يعوض. الداء في “اللبننة” والدواء في استئصالها، إنه وطن في خطر، ويستحق منا جميعاً دعم جراحة كهذه.