أقلامهم

أحمد الديين : الانجرار وراء المزايدات والانشغال في صراعات هامشية تبعدنا عن الاهتمام بقضايانا الأساسية

المادة الثانية!


أحمد الديين 


 بعد التصريحات المثيرة للجدل، التي أدلى بها بعض النواب الإسلاميين في شأن تنقيح المادة الثانية من الدستور بحيث تصبح “الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع” بدلا من كونها مصدرا رئيسيا للتشريع، فقد يكون المناسب إعادة نشر ما سبق أن دار من مناقشات هامة حول هذه المادة الدستورية أثناء جلسات لجنة الدستور والمجلس التأسيسي في العام 1962وتوضيح ما توصّل إليه الآباء المؤسسون للدولة الكويتية الحديثة من توافق واقعي ومسؤول على الصيغة القائمة للمادة الثانية.


إذ إنّه في الجلسة  التاسعة للجنة الدستور التي انعقدت يوم الخميس 31 مايو من العام 1962 طلب عضو اللجنة سعود العبدالرزاق أن تعاد صياغة المادة الثانية من مشروع الدستور بحيث تكون الشريعة الإسلامية هي مصدر رئيسي للتشريع، فردّ عليه الخبير القانوني للحكومة الأستاذ محسن عبدالحافظ بأنّه “لو قلنا بذلك لاضطررنا لإلغاء كثير من المرافق المهمة مثل البنوك وغيرها ولمنعنا الربح لأنّه ربا ولمنعنا التأمين، ولقطعنا يد السارق ورجمنا الزاني، فهل توافق على ذلك؟


… فيما كان ردّ الخبير الدستوري للمجلس التأسيسي الدكتور عثمان خليل عثمان: “إننا في العصر الحديث، وهذا العصر له متطلبات لا يمكن إنكارها ولا الانعزال عنها. والكثير منها ليست الشريعة مصدره، وفي الشريعة نظرية المصالح المرسلة؛ والاستحسان وما إلى ذلك إلا لمواجهة التطور ولعدم الانعزال عنه. واعتبار الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي قد يقتضي إلغاء قانون الجزاء مثلا، أو إلغاء البنوك ونظام التأمين وكثير عداها من النظم الحديثة التي لم تؤخذ عن الشريعة الإسلامية، بل وأحيانا تخالفها في شؤون الدنيا لا في شؤون الدين”… وبعد المناقشة وافق أعضاء اللجنة جميعا على المادة كما وردت عدا سعود العبدالرزاق.


وفي الجلسات العامة للمجلس التأسيسي، وتحديدا في الجلسة 19 المنعقدة بتاريخ 11 سبتمبر 1962 طرح عضو المجلس خليفة طلال الجري تعديلا على المادة الثانية يقترح فيه أن توضع عبارة “المصدر الرئيسي للتشريع” عوضا عن مصدر رئيسي للتشريع، وأيّده الأعضاء أحمد خالد الفوزان، ونايف الدبوس، وسعود العبدالرزاق، فردّ عليهم الخبير الدستوري للمجلس: “إذا قلنا الشريعة مصدر رئيسي فإننا نكون قد أعطينا الشريعة مكان الصدارة دون إحراج المشرّع، بل حمّلناه أمانة التوفيق بين هذا الأصل وضرورات الحياة الملحة…


 وأما إذا قلنا إنّ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي فإننا نضيف التزاما قد يحرج المشرّع مستقبلا ويمنعه من قوانين لازمة وإن كانت لا تتمثّل في الشريعة الإسلامية”… وأبدى نائب رئيس المجلس التأسيسي الدكتور أحمد الخطيب ملاحظات حول ما إذا كان تعديل نصّ المادة من شأنه العودة إلى الحدود، وتساءل، وكذلك معه وزير الصحة عبدالعزيز الصقر، عن مصير البنوك، فيما أشار وزير العدل حمود الزيد الخالد إلى جانب بالغ الأهمية يتصل بما أسماه  “مصير الحكم الوراثي الذي لا تعرفه الشريعة الإسلامية”


… وفي تلك الجلسة تمّ الاتفاق على تأجيل بحث المادة الثانية، حيث جرت إعادة مناقشتها في الجلسة 24 المنعقدة يوم الثلاثاء 24 أكتوبر من العام 1962، وتولى الخبير الدستوري الدكتور عثمان خليل عثمان شرح المادة قائلا: “إذا استعملنا عبارة المصدر الرئيسي للتشريع أي بألف ولا تخصيص يكون معنى ذلك لا يجوز الأخذ عن أي مصدر آخر فيما ورد فيه حكم في الشريعة الإسلامية، في حين لو قلنا إنّها مصدر رئيسي فمعنى ذلك أنّها ليست المصدر الرئيسي الوحيد، وفي ذلك فتح الباب للمشرّع إذا وجد من ضرورات الحياة العملية ما يقتضيه الأخذ من مصادر أخرى كما هو الشأن في مسائل البنوك والشركات والتأمين وما إلى ذلك. وإنما كان مثار الخلاف والجدل هو أنّ بعض حضرات الأعضاء يريدون أن يكون للشريعة مكان أكبر


… ولذلك بيّنا في المذكرة التفسيرية بوضوح أنّ هذه العبارة إذ تقول إنّها مصدر رئيسي للتشريع إنما تفتح الباب على مصراعيه للأخذ بالشريعة الإسلامية بالقدر الذي يراه المشرّع أي القانون العادي، فإذا رأى المشرّع العادي أنه في الإمكان الأخذ بالشريعة الإسلامية مئة بالمئة وقدّر أنّ مصلحة البلاد تسمح بذلك فهذا النص الدستوري لا يمنعه منه، فالنص الدستوري يفتح الباب على مصراعيه للأخذ بالشريعة الإسلامية كاملة إذ قدّر المشرّع هذا…”، وردّ عضو المجلس خليفة الجري الذي كان قد طلب تعديل المادة: “أشكر الخبير الدستوري على التفسير الذي أوضحه لنا الآن، وإني أشكر اللجنة التي وفّقت بين ما طلبنا سابقا وما نوقش باللجنة وإني كواحد من الأعضاء الذين أثاروا هذه المادة أشكر اللجنة على التوصل إلى الوضع الصحيح وإنني مقتنع في الوقت الحاضر”… وبذلك تمّ إقرار المادة الثانية وفق نصّها الحالي الوارد في الدستور وبالشرح الذي ذكره الخبير الدستوري المنصوص عليه في المذكرة التفسيرية.


ولعلّ في استذكار هذه الوقائع والمناقشات التاريخية ما يفيد؛ وربما ما يفترض أن يغني عن الانجرار وراء المزايدات والانشغال من دون طائل في صراعات هامشية تبعدنا عن الاهتمام بقضايانا الأساسية.