سالم العبدالعزيز في محكمة الضمير
جاسم بودي
«بالرغم مما لاقته تلك الجهود من قبول وتأييد إلا أنها لم تتجسد بإجراءات ملموسة لتوجيه دفة الإصلاح المالي كمدخل للإصلاح الاقتصادي المطلوب، ونتيجة لذلك تفاقمت حدة الاختلالات الهيكلية القائمة وتعاظمت المحاذير التي تنطوي على استمرارها وهي محاذير قائمة ومتزايدة وإن حجبتها الأسعار المرتفعة للنفط في الأسواق العالمية في المرحلة الحالية».
ربما كانت الفقرة السابقة أصعب ما قاله الشيخ سالم عبدالعزيز الصباح مبررا استقالته من منصب محافظ البنك المركزي بعد أعوام طويلة أبحر فيها بسفينة الوضع المالي الكويتي وسط أمواج عاتية صاخبة تعرض فيها الاقتصاد العالمي إلى تسونامي جارف. لكن البحار الكويتي الذي اوصل السفينة إلى الشاطئ بأمان نزل منها بكل هدوء محذرا من… الغرق.
لماذا كانت الفقرة السابقة هي الأصعب؟ لأنها تحتوي على كل خيبات الأمل والمرارة إنما بأسلوب «المحافظ»… المحافظ. فعند كل نفير يطلقه كان يجد من يقول له إنه يتحدث بالوقائع والحقائق والمنطق، بل كان يشعر ان ما يقوم به من تحذير متواضع مقارنة بالمزايدات التي كان يسمعها وردود الفعل المؤيدة والواعدة بتذليل العقبات أمام مشروعه الإصلاحي ورؤاه لوقف النزيف المالي، ثم يفاجأ بأن الأمور لا تدخل في ملف التجميد فحسب بل تذهب في اتجاه الأسوأ مُحدثة المزيد من الانهيار والمزيد من المخاطر.
كانت الكويت مدرسة في السياسة المالية المتزنة. كل إنفاق بحساب وكل خطوة بمردود. تدرجت في الصرف على الأولويات مخزنة الوفر في صندوق أجيال لأن الرؤى الكبرى كانت تعرف ان الثروة التي تقف على الأرض أهم ألف مرة من الثروة الكامنة في بطن الأرض. وزعت استثماراتها في كل العالم وبحثت عن مداخيل جديدة كي لا تبقى رهينة أسعار النفط المتذبذبة… تصرفت الدولة تماما كما الكيانات الاقتصادية العملاقة الناجحة: إنفاق متوازن ومحسوب وعلى المجالات المحتاجة وفق الأولويات الملحة، وتأمين مداخيل متعددة المصدر للهروب من قبضة المصدر الواحد وتكوين احتياطيات ضخمة تفيض عن الموجود تحسبا لغدر الزمان… وكم كانت هذه السياسة ناجحة عندما اهتزت الكويت اقتصاديا وأمنيا في ثمانينيات القرن الماضي من جهة وعندما حاولوا تطييرها من الخريطة عام 1990 من جهة اخرى.
القصة اليوم معكوسة. الأولويات ضائعة. المشاريع المنتجة متوقفة. التنمية شعارات لا وجود لها باستثناء بعض الطرق المحفورة وبعض الجسور المتواضعة. إنفاق غير مسبوق على مجالات غير مرئية أو ملموسة وسياسات مالية تشبه برامج المرشحين الانتخابية تؤدي إلى تضخيم بنود الرواتب والمكافآت وتستنزف الأبواب كلها في الموازنة وليس الباب الأول فحسب. التوظيف وحشر الإدارات هو السياسة الوحيدة المتاحة بدل فتح طرق الإنتاج في كل المجالات وتوسيع خيارات الجيل الشاب عبر سياسة ربط التخرج بالوظائف المطلوبة والتي تحتاج إليها الكويت. هدر بالجملة.
تسرب رساميل كالموج. هروب رؤوس الأموال كأسراب الطيور المهاجرة… وذلك كله يحصل مع وصول أسعار النفط إلى مستويات تاريخية، فإذا تراجعت الأسعار أو هوت في ظل الإدارة المأسوية للشأن المالي الكويتي فستتسع الفجوة أكثر فأكثر بين بندي الموازنة وصولا إلى الانهيار الكبير لا قدر الله.
وإذا كان المحافظ الشيخ سالم قال بكل وضوح إن البنك المركزي قد لا يتمكن مستقبلا من الاضطلاع بمسؤولياته لتكريس الاستقرار النقدي والمالي في دورة الاقتصاد الوطني، فإن المفارقة الأكثر إيلاما تكمن في أننا لم نسمع من أي مسؤول في الدولة حتى الآن تعليقا على مضمون استقالة المحافظ. فالنفير الذي أطلقه الرجل كفيل باستنفار جميع المسؤولين في كل القطاعات وكل السلطات… لكننا في الكويت، وفي الكويت للأسف الشديد لم يعد أحد ينظر لا إلى عمق المشكلة ولا إلى ظواهرها.
الكويتيون يريدون أن يعرفوا لماذا استقال المحافظ، ولماذا كانت اقتراحاته تجد القبول والتأييد (كما قال هو نفسه في كتاب استقالته) ولم تجد طريقا إلى التنفيذ، ولماذا لم يعلق أحد من المسؤولين الكبار والمعنيين مباشرة بالشأن المالي والحياتي على الاستقالة أو على مضمونها، ولماذا لم نسمع رأيا في اتساع حجم الاختلال الى الدرجة التي تنذر بانهيار قد لا يتمكن معه البنك المركزي من ممارسة دوره في حفظ الاستقرار. والأهم من ذلك أن المحافظ ترك المنصب ليس لأي اعتبار شخصي أو خاص بل لأنه يرفض أن يكون شاهد زور على عملية هدم الاقتصاد المبرمجة التي لا تجد من يوقفها… بمعنى آخر، ينسحب وكيل الدفاع عن الاستقرار المالي من محكمة التاريخ إلى محكمة ضميره فيما يقف الجميع متفرجا على ذلك الانسحاب.
لا نبالغ إذا قلنا إن ما حذر منه الشيخ سالم عبدالعزيز الصباح وكان سببا في استقالته يمثل التحدي الأكبر على الإطلاق للكويت يلي مباشرة تحدي الغزو، فإذا كان الاجتياح العسكري عام 1990 سعى إلى تدمير الحاضر تمهيدا لضياع المستقبل فإن السياسة المالية الكارثية التي تنتهج الآن ستدمر المستقبل بعد أن تُضيّع الحاضر… حتى ولو كان الورم السرطاني القاتل كامناً خلف البحبوحة الموقتة وإيرادات النفط.
اللهم احفظ الكويت ومستقبلها من كل مكروه.
أضف تعليق