أقلامهم

عبد الحميد الأنصاري : السلفي أميل إلى التكفير … و الصحوي إلى التخوين

تسييس الخطاب الديني في ظل الإسلاميين

د. عبدالحميد الأنصاري
أقصد بالخطاب الديني كل أشكال التعبير التي توظف الدين في الشأن العام السياسي والاقتصادي والاجتماعي، تعليمياً، دعوياً، إفتائياً، تحريضياً ثورياً، هذا الخطاب في وضع عليل لخمسة أسباب:
1- فشل في تحصين مجتمعاتنا وشبابنا أمام غزو الفكر المتطرف الذي كان وراء الأعمال الإرهابية التي تسببت في إهلاك آلاف البشر على امتداد السنوات العشر الماضية.
2- فشل في استثمار طاقات الشباب المسلم في ميادين البناء والتنمية والإنتاج والإسهام في العطاء العالمي لخدمة البشرية.
3- فشل في تقديم صورة حضارية للإسلام والمسلمين وعجز عن إنتاج خطاب إسلامي متصالح مع العالم يعبر عن مقاصد الدين وقيمه السامية في نموذج تنموي حضاري ناجح، والمؤسف أن الخطاب الديني المهاجر حمل أمراضه معه، فشقيت الجاليات الإسلامية في ديار الغرب، وأصبحت تلك الديار تتوجس من المسلمين وتخضعهم للمراقبة الأمنية.
4- فشل في تعزيز المشترك الديني والمذهبي سواءً بين أبناء المجتمع الواحد أو بين المجتمعات الإسلامية، إذ تحول إلى عامل تأزيم وفرقة وتعميق لثقافة الكراهية، والمحزن أن الفرقاء الدينيين استغلوا التقنيات الحديثة في التواصل والفضائيات في تأجيج الكراهية على حساب قيم الإسلام في التسامح والمحبة والتعاون، وأخيراً صرح أحد النواب الإسلاميين في الكويت بأنه لا كنائس جديدة بعد اليوم.
5- فشل في إيجاد حلول لقضايا مجتمعاتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية لأنه لايزال أسير مقولات القدماء يلتمس منها حلولاً لقضايانا المعاصرة. لماذا فشل الخطاب الإسلامي في ترجمة أهداف الدين ومقاصده؟ لا يرجع الأمر إلى قلة الموارد والإمكانات كما لا يتعلق بضعف التمكين للدعاة والرموز الدينية، فالحاصل أن الموارد المرصودة للدعوة كبيرة كما أن لهم نفوذاً واسعاً وهيمنة على كل المفاصل التي تصوغ ثقافة المجتمع، وهم يلعبون دوراً بارزاً في تشكيل وجدان المسلم وعقله ومفاهيمه وتصوراته عن ذاته ومجتمعه، وعن العالم المعاصر، إذن لماذا هذا العجز؟!
إنه عجز بنيوي كامن في عمق الخطاب الديني ومضامينه بوجهيه: السلفي والصحوي وأقصد به: الروح الإقصائية الحاكمة لهذا الخطاب والملازمة له عبر نصف قرن، ونرصد تجلياتها في نزعات ثلاث:
1- النزعة الذكورية التسلطية: فالخطاب الديني خطاب ذكوري بامتياز يحتكره الرجال وحدهم حتى في أخص خصوصيات المرأة، والمرأة في خطاب الدعاة المعاصرين كائن مقلق ومؤزم، فهو إما أن يخشى منه ومن فتنته الطاغية، وإما أن يخشى عليه كجوهرة ثمينة فيفرض عليها وصاية وعزلاً وتهميشاً وتمييزاً، ولا أدل على أن المرأة اليوم في ظل هيمنة الإسلاميين تراجعت مكاسبها ومشاركتها في صنع القرار السياسي سواءً في البرلمانات أو الحكومات! مازالت المرأة العربية تعاني إقصاء ظالماً هو حرمانها من نقل جنسيتها لأولادها، وهو إقصاء شاذ بين تشريعات العالم قاطبة، فالخطاب السائد يتوجس مرضياً من أي أمر يتعلق بالمرأة من يوم مجيئها إلى هذه الدنيا حتى رحيلها. ومن اطلع على مقالة المبدعة سوزان المشهدي “أبيض.. أسود” يدرك أن العقلية العربية مازالت أسيرة وهم أعلوية الرجل، ومازال الرأي العام مؤمناً بمقولة “للمرأة عشر عورات فإذا تزوجت ستر الزوج عورة، وبقيت العورات التسع، فإذا ماتت ستر القبر عوراتها الباقية”.
2- النزعة التكفيرية–التخوينية: الخطاب المعاصر خطاب مذهبي تعصبي يعتقد أنه يملك الحقيقة المطلقة سواءً في الأمر الديني العقدي أو الدنيوي، فالعقيدة الصحيحة واحدة والفرقة الناجية واحدة ولذلك نجد الخطاب السلفي وفي مقابله الشيعي، وأيضاً الصوفي في اشتباك دائم عبر فضائيات ومنابر ومنتديات ترسخ وتعمق الفرقة والكراهية المتبادلتين؛ لدرجة أن انتحارياً قام بتفجير نفسه وسط آلاف كانوا يحتفلون بالمولد النبوي الشريف في كراتشي، وأخيراً قتل 18 شيعياً بهجوم طائفي في إسلام أباد!
وإذا كان الخطاب السلفي أميل إلى التكفير فإن الخطاب الصحوي أميل إلى التخوين، وبخاصة تجاه من يسميهم بـ”العلمانيين”، إذ لا يتورع عن استغلال منابر بيت الله تعالى في تخوين المخالفين سياسياً وإقصائهم، ولا أدل على أن رمزاً إسلامياً دعا بالأمس القريب المصريين إلى عدم انتخاب العلمانيين وغير المسلمين! اليوم وفي ظل هيمنة تيارات الإسلام السياسي في المنطقة تشهد منابر المساجد والفضائيات الدينية انفلاتاً “دعوياً” كبيراً، أصبح الدعاة والخطباء يوظفون المنابر والفضائيات كلٌ بحسب مقصده السياسي وبحسب المصلحة الحزبية الضيقة، وتحولت منابر المساجد بعد ثورات الربيع العربي إلى منابر للمبارزة بين الخطباء بحسب ألوانهم السياسية، وتحول الخطيب إلى محلل سياسي يفرض رأيه على الناس باعتباره رأياً فاصلاً في الأوضاع السياسية الداخلية والخارجية، بل أصبح يتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى باعتباره زعيماً دينياً وسياسياً عابراً للحواجز والحدود.
وتحولت المساجد في ظل الإسلاميين إلى منابر سياسية حزبية في انحراف تام عن الوظائف الأساسية لبيوت الله تعالى، جامعة لكلمة المسلمين وإصلاح ذات بينهم ومنابر للنور والهداية والإرشاد والألفة والتسامح, وانتهكت حرمة المساجد باللغو السياسي والعبث الحزبي والخلافات الطائفية، وتحولت إلى منابر لتأجيج الكراهية وتهييج الجماهير بحجة أن الإسلام لا ينفصل عن السياسة! ولكن أي سياسة؟! هل هي السياسة بمعنى إصلاح ذات البين والدعوة بالحسنى لما فيه مصلحة المسلمين؟ أو السياسة بالمعنى الحزبي المؤزم للعلاقات بين الدول الشقيقة؟!
ومن هذا المنطلق، وفي هذا السياق، ما كنت أود أن يتطرق فضيلة شيخنا القرضاوي إلى أمر يخص الأمن العام لشقيقتنا دولة الإمارات بناءً على معلومات غير دقيقة، وهو في ذلك لا ينسجم مع رأي المجتمع القطري لا حكومة ولا شبعاً كما وضحه الكاتب القطري محمد بن عبدالرحمن آل ثاني – بحق– بأسلوبه الراقي في مقالته “لغة جديدة من القرضاوي” الراية القطرية، يقول الشيخ القرضاوي: إنه واجب عليه أن ينصح الحكام من هذا المنبر يقصد منبر الجزيرة، ولكنه تناسى أخلاقيات وآداب النصيحة الشرعية للحكام وهو أعلم الناس بها!
3- النزعة الاتهامية التآمرية: النغمة السائدة في الخطاب السياسي هي اتهام الآخر الغربي باعتباره مسؤولاً عن أوضاع الفساد وداعماً لأنظمة الاستبداد العربي، إذ يصور العالم مؤامرة على المسلمين وغزواً ثقافياً وعولمة خبيثة، كما يصور أنظمتنا العربية أنظمة تابعة للغرب تنفذ مخططاته! وهذا الخطاب اليوم وفي ظل الإسلاميين الحاكمين الذين سيصطدمون بكثير من المعوقات في ميادين التنمية والإنتاج، سيزداد تسييساً وتحريضاً ضد الغرب كتبرير للفشل في الإنجاز وكمشجب يعلق عليه مشاريع الإخفاق تماماً كما حصل في ظل الناصريين والبعثيين من قبل، وكما هو حاصل اليوم في جمهورية إيران الإسلامية.
* كاتب قطري