أقلامهم

جاسم بودي : هل هناك صف ثانٍ في أسرة الصباح بمستوى هذا العبور ؟

هل هناك صف ثانٍ في أسرة الصباح؟

جاسم بودي
بعيدا من إرهاق القارئ بالمزيد من التفاصيل اليومية التي أنهكته وأنهكتنا، وبعيدا من شالات الاقتحام البرتقالية والأعلام السود المعترضة، وبعيدا من الآفاق الداكنة التي نراها أمام مسيرة العمل السياسي وسيادة الممارسات المذهبية الطائفية المتخلفة… لا بد من الحديث عن أمر بالغ الاهمية بالنسبة الى المستقبل السياسي بل لا نبالغ إن قلنا إنه الأهم بلا منازع.
الحكم استمرارية والسلطة تداول و«لو دامت لغيرك ما اتصلت إليك» شعار رفع على قصر السيف قبل عقود من الربيع العربي المطالب بالتغيير. والكويتيون على اختلاف آرائهم وتنوعاتهم ارتضوا حكم أسرة الصباح وهم لا يريدون بديلا عنها. صحيح أن ما يجري في بيت الاسرة أمر يتعلق بالاسرة والآليات التنظيمية الداخلية التي وضعتها لمعالجة الامور من دون تدخلات أو تأثيرات خارجية، لكن الصحيح ايضا أن الجانب الاسري المتعلق بالحكم والسلطة هو جانب تشاركي بامتياز، لان الكويتيين الذين ارتضوا الحكم قبل قرون إنما فعلوا ذلك بضمان التوافق والمشاركة في ادارة البلاد.
من هذا المدخل، مدخل المشاركة، نتوقف عند أمر مقلق نتمنى أن نرى لاحقا ما يبدده. ومباشرة نسأل: هل هناك صف ثان من الاسرة قادر على اداء المهمات المنوطة به مستقبلا؟ وهل ارباب هذا الصف يملكون الكفاءة المطلوبة والتقديرات السليمة والخبرة المجربة والحكمة المكتسبة لادارة الامور بالشكل المطلوب؟
لا بد قبل الاجابة عن السؤالين السابقين من التوقف عند فترة الاعوام السابقة التي اثبتت بما لا يدع مجالا للشك بان كثيرين ممن دفعوا الى واجهة العمل السياسي من أبناء الاسرة احترقوا وأحرقوا انفسهم، إما لاستخدامهم في سياسة المحاور وإما لانهم استعجلوا الوصول الى السلطة بناء على معطيات تبين لاحقا أنها أوهام.
دعونا نتحدث بصراحة اكثر. المعايير التي تم من خلالها وضع هذا او ذاك في سدة المسؤولية لم تكن مستندة الى قراءة صحيحة للشخصية نفسها او لقدراتها وامكانياتها، فمن يتسلم منصبا اليوم لا يكفي ان يكون قادرا على «شراء الذمم» فحسب كي يكون «شاطرا»، فهذا امر يمكن استخدامه كتكتيك يومي في مراحل العلاقات البائسة بين المجلس والحكومة. ومن يتسلم منصبا لا يكفي ان يكون قادرا على زيارة عشرين ديوانية في يوم واحد وايهام القيادة بان القاعدة القبلية او الشعبية معه من خلال انجاز معاملات او استخدام الواسطة، فهذا امر سيسيء لاحقا الى المسؤول نفسه والى النظام العام في البلد. ومن يتسلم منصبا لا يكفي ان يكون قادرا على حشد تأييد نيابي للتصويت هنا او الاعتراض هناك، فهذا امر اثبتت الايام انه كالوقوف على صفيح من زئبق لا يستقر ولا يمكنك التقاطه ومن كان معك بقوة الآن يصبح ضدك بالقوة نفسها غدا. ومن يتسلم منصبا لا يكفي ان يرضي هذا التيار او تلك الطائفة او القبيلة بملء وزارته بأبنائها، فهذا الامر وان كان يضر ضررا بالغا بالادارة فانه ايضا لا يحمي المسؤول نفسه.
الأمثلة تطول كثيرا لكن الثابت فيها أمران:
الاول، ان الاختيار يتم على قاعدة التجريب لا التأهيل المسبق، ولذلك سمع اهل الكويت من بعض الشيوخ الصغار كلاما ومواقف مسيئة للغاية وشاهدوا ممارسات غير قانونية سخروا لها المناصب الكثيرة التي تولوا مسؤولياتها.
والثاني، ان غالبية من يتم تجريبهم يستفيدون من كل ما سبق وذكرناه لتحويل التأييد تدريجيا من السلطة العامة الى السلطة الخاصة ومن الاستقطاب للحكومة الى الاستقطاب لمشروع السلطة الخاص بهم، ولذلك صار صراع ابناء الاسرة مصطلحا شبه يومي عند الحديث عن ازمات الكويت، وصارت طموحات بعض ابناء الاسرة عبئا على القيادة نفسها خصوصا ان هؤلاء استخدموا اسلحة نيابية وشعبية لتحقيق هذه الطموحات.
نعود الى السؤال: هل هناك صف ثانٍ من الاسرة قادر على اداء المهمات المنوطة به مستقبلا؟ الجواب بالطبع يوجد والا كان الامر معاكسا لطبيعة الاستمرار.
وهل ارباب هذا الصف يملكون الكفاءة المطلوبة والتقديرات السليمة والخبرة المجربة والحكمة المكتسبة لادارة الامور بالشكل المطلوب؟ هنا نريد التوقف قليلا في ضوء التجارب السابقة لنقول ان التأهيل المسبق هو الذي يخلق هذه العناصر اضافة الى اكتساب الحكمة من الكبار والخبرة من خلال العمل اليومي في مختلف مجالات الادارة.
الصف الثاني مطلوب منه ان ينسى قليلا نظرية «السيف والمنسف» في العام 2012 ويقترب اكثر من العلم والحداثة والعصرنة في كل شيء. شيخ الصف الثاني مطلوب منه ان يرفع سيف القانون والدستور على نفسه اولا وان يكون قدوة في السلوك والممارسة وحتى في لغة الخطاب. ومطلوب منه ايضا ان يتواصل مع اهل الكويت في دواوينهم ومناسفهم وافراحهم واتراحهم وان يسمع منهم ويتعلم من كبارهم، لكن ليس المطلوب منه ان يحمل اختام الوزارة في جيبه ليوقع معاملات «اللامانع» كي يبدو محبوبا، او ان يدفع لاسقاط القروض والفوائد كي يبدو شعبيا، او يتغاضى عن انتهاك القانون كي يبدو مقبولا، او يفتح خزائن الوزارة والمناقصات والصفقات لشراء الولاءات كي يبدو كريما. او يتحالف مع طائفة او قبيلة او تيار سياسي داخلي وخارجي كي يبدو قويا.
وشيخ الصف الثاني مطلوب منه ان يكون اداريا حازما وتشاوريا مرنا، صاحب رؤية واسلوب، خلاقا في عمله، يؤمن بالعمل الجماعي والحريات والديموقراطية، بعيدا عن الشبهات المالية والتجارية من اي نوع كان. عليه ان ينسى نظرية ان المال يشتري الولاءات لان كويت المستقبل ليست في حاجة الى هذا النوع من الولاءات. انها بحاجة الى ادارة قادرة على اعادة الاعتبار للمؤسسات وهذه المؤسسات هي التي يجب ان تجد حلولا لكل الامور العالقة في دولة حباها الله بنعم كثيرة وما زالت حكوماتها لا تعرف كيف توصل رسالة بريد الى اصحابها بأقل من 3 أشهر.
وحتى نكون منصفين، فان شيخ الصف الثاني لا يمكنه ان يلبس عباءة العناصر التي ذكرناها اذا بقي النظام السياسي على حاله، فهو بين حروب حزبي الحكومة والمجلس لا مكان له، وبين حروب «المحبة» بين الاقارب لا مكان له، وبين حروب الطائفة والمذهب والقبيلة لا مكان له… ولذلك نتمنى العبور من الدولة الحالية المتراجعة الى الدولة المدنية الحديثة على ان تكون نوعية شيوخ الصف الثاني بمستوى هذا العبور.
أقول هذا الكلام من باب المحبة والتمسك بأسرة الحكم، لان عدم تأهيل صف ثان والاعتماد فقط على «البركة» الموجودة حاليا سياسيا وماليا سيؤديان مستقبلا إلى فراغ لا نريد لأحد آخر أن يملأه… والله من وراء القصد.