أقلامهم

صالح الشايجي: سأخرج عارياً.. بلا ثوب مقدّس.. ولا رداء..

قيلولة: «سمير».. موحّد الكويتيين..

صالح الشايجي


 عاقر.. تكتري حماراً أجرب!
على قارعة الأمل .. ثمة جسد مسجى..
 أصعب الشهادات.. الشهادة ضد الذات..
سأخرج عارياً.. بلا ثوب مقدّس.. ولا رداء مدنّس..
ظلم الصغار ـ كظلم ذوي القربى ـ أشدّ مضاضة..
 
«سمير» في حضن الرحمة
في الدمع شيء من غسيل الروح..
وبعض الدمع واجب.. وفريضة لا تقبل التأجيل..
دمعي الحزين.. ممزوج بفرحة تستحقها بلادي وأهلها الطيبون..
دمع هذه الحروف.. تذرفه الحروف على الراحل «سمير سعيد».. الذي ما كان للموت أجنحة تحلق فوقه.. ولكن الموت جاءه زاحفا متسترا بأجنحة الظلام..
سقط «الحارس الأمين» فجأة في براثن الموت الأسود..
ومن يصد الكرات القاذفات.. عجز أن يصد كرة الموت.. لأن الموت إرادة من صنع خالقها الذي نسلم جميعنا بإرادته واسترجاع أماناته..
ولسنا قلقين على «سمير».. في حضن الرحمة.. فهناك الأرواح في هدأتها التي لا تجدها على الأرض الصاخبة..
وفي غمرة الحزن والتياع الأرواح وسواد أحزانها .. تسلل فرح يرصده من يحاول رصد الأفراح.. فيرفعها بيرقا يكسو سماء البلاد..
ولقد رصدت تلك الفرحة.. التي رسمها تقاطر الكويتيين – بفئاتهم.. وألوانهم.. وتنوع أعراقهم ونزعاتهم ومشاربهم.. في لحمة وطنية غابت ـ مع الأسف ـ عن أرضنا غيبة كبرى.. وضاعت في التزاحمات والتراشقات والمعايرات والمكابرات ـ تقاطرهم صوب ذلك الجسد المسجى على قارعة الأمل..
ولكن غاب الأمل.. ومات «سمير».. وتوحد الكويتيون..
وحدهم «سمير».
***
الشهادة.. ضد الذات
ما أصعب الشهادة ضد الذات..
وما أصعب تأثيم الذات وسوطها وجلدها بسياط الشمس – سياط الحقيقة اللاهبة – ولكنني – ورغم الصعوبة – فاعلٌ ذلك.. لإيماني بأن الشهادة ضد الذات.. من مقتضيات الحق الذي إن لم نتدرعْه.. فلن نحمي الحياة من جور بعض الحياة.. ولا أن نحمي أكثر الناس.. من جور بعض الناس..
***
شهادتي على ذاتي وضد ذاتي.. لن ألبسها ثوب القدسية المغسول بماء الكوثر.. بل سأخرج عاريا – أعلنها ـ بلا ثوب مقدّس ولا رداء مدنّس..
لست أنا وليست ذاتي.. فأنا وذاتي جزءان صغيران في ذلك الجسد الكبير الذي سأشهد في محكمة العدل ضده..
اسمحوا أن أشهد ضد الإعلام الذي أنتمي إليه منذ قرابة نصف قرن تقلبت خلالها على سرره المتنوعة الأغطية وتلاوينها.. ناعمها.. حريرها ودمقسها.. وخشنها خيشها ووبرها..
أنا ذات صغيرة وذرة أصغر في ذلك الجسد الكبير الذي جنيت «في روضه شهدا وصابا».. وعلى مدى تلك السنين كلها.. لم أزد فيه عن كوني قلامة ظفر في الحجم.. وخطوي فيه لا يتجاوز الصفوف الأخيرة في قافلته.. وربما دون ذلك شأنا.. فلعل شأني فيه شأن جامعي سقط المتاع.. ومخلفات القافلة التي نسيتها في مرابع الركود أو «محطات الترانزيت»..
فلم أتسيّد يوما سدّة جريدة مقروءة..
ولم أتربع على عرش فضائية نهاقة نباحة..
ولم تَدُنْ لإرادتي وإدارتي.. موجة راديو حتى وإن كانت مبحوحة أو خرساء..
كنت في تلك كلها.. مقادا لا قائدا.. وتابعا لا متبوعا!
ولم أكن في ذلك «مظلوما» بل إن «ظلمي» ربما كان هو الأكبر..
قد يبدو ظلم الصغار أشدّ مرارة من ظلم الكبار.. و كـ «ظلم ذوي القربى الأشد مضاضة من وقع الحسام المهنّدِ»!
فالصغير إن ظلم.. يكون ظلمه كبيرا.. والكبير إن ظلم تدانى ظلمه وصغر عن ظلم الصغير..
ولست بحاجة لشرح تلك الفلسفة العجماء والتأمين عليها.. فمن شاء قبلها ومن شاء فليرفض.. وله مني العينان..
***
الإعلام هادمٌ وبانٍ..
يتزيى بهذا الزي وبذاك.. بالقدر ذاته..
يلبس لبوس الحرب ويتمنطق بأسلحتها.. لهدم ما انبنى.. وأيضا يتزيى بلبوس البناء ويصيح بكورال جماعي «هيّه هلما لبنة طاول»..
وما أرى إعلامنا اليوم إلاّ أنه سمّام يدسّ السم خوفا من التآكل ويحيط حواشيه وأطرافه بموانع الموت السريري فيلجأ إلى التهييج وفتح القريحة الغريزية على مصاريع النهش باللحم الحي لعقول الناس وإراداتهم.. ويصوغ لهم فكرا مسموما جاهلا جاهليا.. لا يؤمن بالحق حتى وإن رآه رأي العين.. ولا يصدق الحقيقة حتى وإن تربعت في سويداء قلبه..
***
وبعيدا عن التنميقات اللغوية والفلسفية واجترار اللغو من اللغة واستحلاب الكلمات من ضروعها المكتنزة بما لذ وطاب من جواهرها ولذائذها السمعية والبصرية..
بعيدا عن ذاك أدخل في الموضوع وأنزع ثوب الرقة ودثار الرياء الذي تدثرت به حتى أكون «شاهدا من أهلها».. مقبولة شهادته.. وحتى لا أدخل المحكمة حاملا معول الهدم.. وشاهرا سيفي لحزّ رقابٍ كانت آمنة في مهاجعها..
أقول إن ما يحفل به إعلامنا من نشر صغائر الصغراء ومما يجود به بعض أصحاب الرقاب المتلفتة دوما صوب فلاشات الكاميرات لفقع تصريح يفقع الأكباد الرطبة ويفجرها تفجيرا مدوّيا.. هو أس البلاء.. وهو الذي يدفع صغائر القوم ممن يمشون مثلنا على اثنتين.. إلى ابتداع المضحكات المبكيات من تصريحات ومشاريع قوانين واقتراحات ورغبات تدلّ على أن أصحابها ما قصدوا بها سوى الظهور على الشاشة.. وانتشرت بين أولئك الصغائر العدوى والتنافس فيمن يكون الأكثر إضحاكا في رغباته واقتراحاته وظهوره بين الناس في الصحف أو في الفضائيات.. ولو أن الإعلام تجاهلهم ولم يشر لتصريحاتهم ورغباتهم البلهاء لما تمادوا في الغي ولما ساروا في طريق النزق والخبال والشيطنة.. لأن الذي جرّأهم على المضي قدما في هذا المنزلق هو تتبع الإعلام لأقوالهم ومفاسد لغوهم ومشاريعهم.. ولولا الإعلام للاذوا بالصمت ولارتوت البلاد وأهلها وبشمت وبشموا من خير صمتهم.. وحمدوا الرزاق الكريم..
إن المجتمعات التي تحرص على أن تبني قواعدها بصورة سليمة لا يلتفت إعلامها لمثل هؤلاء الطائشين المتفلّتين.. بل يعاقبهم بالصمت والتجاهل مطبقا مبدأ «إذا خاطبك السفيه فلا تجبه.. فخيرٌ من إجابته السكوت»..
أما نحن – ومع الأسف – لا يخلو يوم من أيام إعلامنا من تصريح أو اقتراح أو رغبة لواحد من تلك الفئة الممهورة بخاتم حب الظهور والشهرة على حساب أولويات بناء المجتمع المتقوّض الأركان!
ودور الإعلام في أي مجتمع هو البناء لا الهدم.. وتبصير الناس لا تضليلها وإلهاؤها بتلك الاستعراضات البهلوانية الفجّة!
***
إن ما يقوم به الإعلام الكويتي هو بكل صراحة.. وبوضوح – لا يقبل اللبس – دور تهديمي ضار.. ولا أعتقد أن الكويت والكويتيين أضروا صحفنا أو فضائياتنا الخاصة بما يستدعي مثل هذه العقوبة الغليظة التي شتتت أذهان الناس وصغّرت عقولهم وحصرت اهتماماتهم بالجري وراء مثل تلك التصريحات والأقوال المجنونة للضحك عليها.. وإن خلت الصحف منها يوما ابتأسوا واكتأبوا!
وبالطبع أنا لا أعمّم مثل تلك التهمة الشائنة.. على جميع دور الصحف والمحطّات الفضائية.. بل إن البعض منها يربأ بنفسه وبالكويت فيبتعد عن معاجن السفاهة!
إننا شعب نستحق الحياة الأفضل والعلم الأفضل والإعلام الأفضل .. فيا سادتي يا سلاطين الإعلام في بلادي.. دعوا عنكم هذا الطريق الرخو الكثير المزالق.. وابنوا إعلاما رشيدا مسؤولا.. وغادروا ميادين المهرجين وردّوا تصريحاتهم عليهم بوطنية الوطني وإباء الأبيّ وبشهامة الشهم الذي يحترم مهنة الإعلام ويقدرها ويؤمن بأنها تبني ولا تهدم!
وأختتم شهادتي هذه بقولي لو سئلت عمّن أساء للكويت وجعلها في حالة التردي هذه.. لما تردّدت بالقول إنه بعض الإعلام الكويتي لا غير! لأنه ودون الإعلام لن تقوم قائمة لطرزانات مجلس الأمة من أصحاب المشاريع والاقتراحات المتوسلة إضحاك الناس.. ولا غيرهم ممن استسهلوا طرق الشهرة التي لا تتطلب منهم سوى كلام أبله يرسلونه إلى الصحف لتقوم بنشره في صفحاتها الأولى.. فإذا بذاك الأبله يضحي بين عشية وضحاها عينا من أعيان البلاد تلاحقه الكاميرات لتستزيد خبالا وضحكا..
والإعلام هو الذي أوجد عندنا.. «أرصاد جوّية قطاع خاص».. فمن لم يسعفه طريق السياسة ليجعله نجما على مسارحها.. ومن تعثر في درب الدعوة.. ووصل بعد ركعتها الأخيرة.. أو لم ترض عنه «سلطنة الدعاة والفقهاء».. صار فقيها في علم الأنواء الجوية يبشرنا بالمطر.. فيكسو سماءنا وأرضنا وجيوبنا الأنفية وعيوننا.. غبارٌ أحمر مختوم بخاتم التزوير في محررات علمية..
وثانٍ تقطعت به سبل الشهرة فراح يفسّر الأحلام.. ويُطعم الناس وبالذات النساء من خانز لحمه..
والإعلام موجود وساحاته مفتوحة على مصاريعها فاغرة أفواهها وكأنها النار التي لا تمتلئ وتقول هل من مزيد!
ولا أحد دقق ولا فحص أهلية من جاء يفتي بالبرد والحر.. والمطر والغبار
و«زُحل» وأصحابه وأهل بيته..
ولا أحد قال لـ «مفتي الأحلام والناس نيام».. جئنا ببيّنة على علمك أيها العالم النحرير حتى لا نغش الناس.. وحتى لا تكتري العاقر حمارا أجرب تطوف به حول الحمى ليتحقق حلمها.. بجنين يحرك أحشاءها الراكدة!
لا عقاب لأولئك المزوّرين النصابين الذين يمارسون نصبهم تحت الأضواء الكاشفة.. دون أن تمتد إليهم يد تغل أيديهم وتبكم ألسنتهم.. بل إن العكس هو الذي يجري ويصير.. فالمبشر بالمطر الذي أعقب بشارته ذلك الغبار العدواني دون أن يتحقق حرف واحد من نبوءته.. و ذاك المفسّر الضال المضلل.. يضحيان نجوما تتحول أجهزة الإعلام إلى سجاجيد حمراء تتبارك بوطئتهم عليها وإطلالتهم من شاشاتها!