أقلامهم

يعقوب الشراح: العلمانية في نموذج المجتمع المدني الغربي تشكل اتجاها لا يمكن نقله بما فيه من أهداف ومكونات

صدى الكلمة / العلمانية والدين
 
د. يعقوب أحمد الشراح
تتأثر الحضارات ببعضها البعض فتأخذ من بعضها وتمتنع عن التفاعل مع مكونات أخرى لأسباب كثيرة أبرزها التباين العام في هذه المكونات والهويات والخصائص التاريخية والثقافية، ناهيك عن تباين النظم الدستورية للدولة الحديثة. غالبية هذه الحضارات وبصفة عامة ظلت تقترب من «الحضارة الغربية» منذ النصف الأول من عشرينات القرن الماضي فأخذت بعضها من العلمانية الغربية في حدود ما كانت تراه مناسباً لا تعكر صفو استقرارها ولا تتعارض مع معتقداتها وظروفها. ورغم أن هذا الاقتراب الحضاري لم يكن بمسافة واحدة إلا أن شدة التأثر بالحضارة الغربية مازالت تصل إلى أكثر الحضارات رغم صدود ومواجهة بعض هذه الحضارات كالحضارة الصينية واليابانية والروسية لرياح الحضارة الغربية ولما يأتيها من الخارج.
الباحث في مفهوم «العولمة» الغربية بما فيها من محاسن ومساوئ يلاحظ أن هذه العولمة لم تقف عند حدود تصدير أهدافها لمجتمعات عانت من الاستعمار والبؤس، وإنما ظلت ومازالت مؤثرة في النظام العالمي الذي خلق بذاته «نظام العولمة» وأراد به أن يكون نظاماً شمولياً يصل كل مكان حاملاً مفاهيم مثل الديموقراطية والرأسمالية والأيديولوجيات الغربية المغايرة لخصائص المجتمعات الأخرى. ففي المجتمعات الإسلامية رعت هذه الايديولوجيات مثل الأيديولوجية العلمانية التي تقف على مبدأ فصل الدين عن الدولة، وإقامة نظام مدني شامل على غرار النموذج الأوروبي الذي يتعارض مع تعاليم الإسلام وتشريعات الحياة العامة للمسلمين. 
إن العلمانية في نموذج المجتمع المدني الغربي تشكل اتجاها لا يمكن نقله بما فيه من أهداف ومكونات لأنه لا يمثل قيما عامة لجميع البشر أو ثقافة موحدة يدين بها سائر الشعوب. فالمجتمع الإسلامي مثل سائر المجتمعات الأخرى يعارض الأخذ بالقيم الثقافية والاجتماعية والأخلاقية المتنافية مع طبيعة تعاليمه، ولا يوصى بنقل كل ما له طابع غربي كالديموقراطية الغربية لأن ذلك أمر غير واقعي أو غير منطقي في ظروف بيئات غير متوافقة مع المفهوم الجديد. فالعالم الإسلامي يتصف بمكونات أساسية غير قابلة للتحول والنقل، ويتصف بديناميكية خاصة بحركته ضمن قواعده ومبادئه. لذلك فهو لا يتشابه كلياً مع قيم الغرب من حيث تعدد اتجاهاته ونظمه، ونظرته إلى الحياة، وبالتالي يصعب التطبع بهذه المجتمعات أو الأيديولوجيات والنظم التي يرى البعض أنها سامية ومعززة لتطور الحياة، وان الأخذ منها لا يتوقف على مبدأ الانتقائية وإنما التطبيعية الكلية.
الغربيون مثل غيرهم لا يريدون أن يفهموا أن المجتمع الإسلامي مثل غيره من المجتمعات يتصف بهيكلية تاريخية وموروثات ونظم وعقائد مختلفة عن تلك المطبقة في الغرب، بل ان كثيرين من هؤلاء يجهلون الإسلام وحياة المسلمين، خصوصا وان الارتباط بالهوية الوطنية قائم على أساس الدين والوطن أو الدولة وليس على أساس النزعات الحدودية المختلة كالنفعية الاقتصادية أو الانتماء للتاريخ أو للسياسة أو لهويات جغرافية كما يلاحظ في نظام الكونفيديرالية كالبريتون ضمن إطار فرنسا أو الفالون ضمن إطار بلجيكا، أو بالشعب التاريخي كالتشيك والصهاينة. 
فمع أننا لا نريد أن نتصدى لكل ما هو مختلف عن الحضارة الإسلامية مادامت الحضارات مختلفة في أصولها وتاريخها وانجازاتها إلا أننا نود التأكيد على خطورة التفكير بأن السيادة للحضارة الواحدة كالحضارة الغربية، وان كل ما في هذه الحضارة تعبر عن القوة والسمو والتعالي لدرجة أنها تريد من الحضارات الأخرى وبشكل ضاغط وأحياناً متعسف يستلزم التبعية والرضوخ لمعايير الاعتقاد الغربي المرتكز على قاعدة أن الحضارات الأخرى لا تتصف بالقوة والتمكن من التحولات الجديدة الغريبة في عالم يتنافس على الريادة والصدارة. 
لاشك أن تقدير خصوصية كل حضارة أساس لمنع التصادم بينها، فلا ينبغي احتقار طرف لآخر لأنه يخالفه في معقداته وأساليب حياته. ولا نظن انه يصعب العيش في عالم متباين حضارياً لكنه لا يمانع تصدير ايجابياته وعدم الزعل من الأخذ بسلبياته. فالحضارات تلتقي في أشياء وتختلف على أشياء أخرى، لكنها متعايشة مع بعضها البعض منذ الأزل في ظل احترام معتقداتها ودياناتها والنظم التي تسير عليها.