أقلامهم

أنوار الجويسري: الأوطان إن أهملت التقدّمية الأخلاقية بموازاة التقدّمية العمرانية فلا بد وتنهار قريباً.

فواصل فكرية / وطنٌ ومبدأ
انوار مرزوق الجويسري
الوطنُ يقوم بالشعب كما هي الأسرةُ تقوم بأفرادها، حينما يُقدّم الوطن شيئاً لأبنائه فهو يطمح ليكونوا صورته المشرّفة أمام العالم، وليكونوا اسمه اللامع بين الدول، ليكون نجاحهم نجاحاً للوطن وإيماناً بعطاء الوطن، فكل الأفراد نتائجُ الأوطان، وحتى في عدم قدرةِ الوطن على العطاء فهو يُساهم في بناء الفرد وفي تكوين مبادئه، ولا ننسى بلداً واقعاً تحت وطأة الحروب والظلم، فهو أيضاً يبني لكن بقسوةٍ أكبر.
عندما أطّلع على أسماء أكبر المثقفين والعلماء والشعراء والأدباء أجدهم وُلِدوا من رحم معاناة الوطن، ففلسطين خرّجت لنا أروع الشعراء والكتّاب وما زالت، ومصر أبدعت في تخريج علماء الدين وكتّاب المسرح والمثقفين الكبار، كما أن بلاد الشام أنجبت عدداً كبيراً من الروّاد والمبدعين، حينما تقرأ في سيرهم تجد أن أوطانهم المهزومة والضعيفة أو الظالمة قللت من إمكاناتهم المادية فتعززت عندهم المبادئ، بعكس المُترف صاحب الامكانات المادية العالية، فهو لم يُواجه الكثير مما أضعف مبادئه وحس المسؤولية لديه.
المبدأ يحتلُ مساحةً كبيرةً من حياتنا وحياة الشعوب، والأوطان هي العامل الأول في تكوين المبدأ من عدمه، فالوطن المضطهد لا يضطهد أبناءه ولكن يُعزز المبدأ عندهم، والوطن المتقدّم لا يُورّث التقدمية لأبنائه، فاليابان البلد المتطور المتقدم يعاني من أعلى نسبة انتحار، وفي هذا دليلٌ على أن الأوطان إن أهملت التقدّمية الأخلاقية بموازاة التقدّمية العمرانية فلا بد وتنهار قريباً.
مما رأيته في رحلتي إلى بيت الله الحرام أن الكادر سعوديٌ مئة في المئة، في الفندق وفي الحرم في المطاعم والأسواق، فمن يبني الوطن هنا هم الشعب لا الوافدون، قد تكون ظروف الحياة القاسية أجبرتهم على العمل في أدنى المراتب، لكن تلك الظروف القاسية علمتهم أن يكونوا في عملهم أعزاء لا أذلة، وأن تكون مبادئهم صلبة تتحمل كل الظلم والطبقية التي يُعانونها، هنا الوطن يبني ولا يبني في آن، الذكاء يكمن في استغلال كل الظروف لصالح الشعب والوطن والمبدأ.