أقلامهم

خلود الخميس: لم يترك العلماء للنفس المجنونة فسحة إلا زادوا بتفسيراتهم جنونها.

المدينة.. وأنا!
بقلم: خلود عبدالله الخميس
في المدن الكبيرة، تعرف حجمك الحقيقي، وتجد ذاتك المثلى، قد تظن أن ذينك الوصفين متناقضان، ولكن مع قليل من الغوص بعمق الفكرة، تجدهما الأكثر تطابقا، المكان الشاسع يرسلك الى داخلك بقوة وعنف ورغبة، يمنحك الدافع للاختباء بين جنباتك من ضياع مرتقب، يوحي إليك بأنه تغول لا جزر فيه رغم تعاقب الليل والنهار وحركة القمر، يلهمك الفرار من مد آفاقه إلى بقعتك المألوفة، بين مسافات المدن والمسافة بينك وبينك علاقة عكسية، كلما تتسع تلك تضيق هذه.
المدن الكبيرة، في الغالب منظمة، تجدها مثل لوحة، لو شاهدتها من عل، متسقة التقطيع، مقسمة الخدمات، واضحة المعالم، من الصعب جدا أن تتوه في أزقتها لأنها لا تعرف كيف تكون الأزقة، فهي أشد تحضرا من أن تضم «زقاقا» حاويا لصعاليك أو مسرحا لمشهد مشرد يتدلى في حاوية، بالتأكيد، واقعيا، هناك من هذين النوعين في المدن الكبيرة، ولكنه غير مقبول أو معترف به اجتماعيا، وخارج قانون وجودها، وأحد نقاط تشوهها، فليس ضمن مخططات المدن المشروعة، مآوٍ لعلاقات بشر مع قمامات!
عندما تنوي زيارة وجهة ما في مدينة من تلك المدن، فأنت تستعد على مستويين، الأول مستوى الواثق بأنك لن تتوه في خرائط دقيقة الوصف، ذلك لأن التصميم والإدارة للمدينة يعيشان تحت تحد لا عطلة له ولا يوم راحة وغير قابل للخلل حتى في استراحات نهاية الأسبوع، فلا خيار للفوضى والتيه، والثاني الخائف الذي يفتح ذراعيه ليحتضن نفسه لحمايتها، فأنت تقود مركبتك متبعا تعليمات جهاز يدلك على المكان وإن كنت تزوره لأول مرة، ولكن رغم كل الوسائل والاحتياطات التي تقسم بأنك في مأمن معها، بل كلما زادت، تُصر على احتواء جسدك أكثر، وبكل قوتك!
خبرتُ ما سبق من وصف، في إحدى وجهاتي «العشوائية» لمدينة من أجمل المدن الكبيرة في العالم، وعشوائية بمعنى ألا هدف محددا منها سوى السير ضمن القطيع! نعم، فكذلك تكون عندما تسافر ضمن مجموعة غير متجانسة كتجربة للرحلات الجماعية، أنت عود غير مرئي في حزمة الطويل والسمين فيها يجعل نسبة حاجاتك في سلم الأهمية صفرا، في الرحلة كنت منفذا لا متخذ قرار، وهي مهمة أجهلها تماما!
لقد كان الوقت قصيرا جدا قياسا بالأنشطة المتاحة، ثماني ساعات، والجو متقلبا بين زخات أمطار ونفحات برودة، تأرجحت مشاعري بين المتعة والمسؤولية، وهذه قصة تراكمية عندي، وأظنها تربوية، ولا حل لها، تقديم الأخيرة على الأولى، وصعوبة الجمع بينهما بما يحقق التوازن، فيشبع الحاجة الحقيقية للاستمتاع ولا يخل بالمسؤولية، معضلة لم أجد لها مخرجا، ولم أحاول!
غريب أمري، أعلم، ولكن أليست هناك غرابات عند كل منا؟! بلى، والفرق أن غراباتكم لا أحد يعلمها، وأنا أشارككم بها هنا، لتعم الفائدة، كما يقولون، أو لنتشاطر الجنون كما أدّعي، أو لأنها هواية الكتّاب المزروعة في الحمض النووي سرد حكاياتهم للعامة، ظنا أنها مهمة!
إنها مدينة براغ، كانت رحلة عابرة، ولم اتنبه للمشاعر أعلاه، وأني أحتضن نفسي طوال فترة الاستطلاع للمدينة، إلا بعد أن قالت لي ابنتي «ماما أنت تضعين يديك متقاطعتين على صدرك طول اليوم، هل تشعرين بألم ما؟» نعم، قلتُ لي: ألم التيه في مكان كبير، فأصير كأسطورة الإبرة التي سقطت في «كوم القش» وأضيع ولا أحد يجدني «هذا ما حدّثت به نفسي، ولكن بصوت مرتفع كذبتُ وقلت لها: لا أشعر بأي ألمٍ حبيبتي، أشعر ببرودة قليلا»، فأهدتني «شالا» ناعما كقلبها، ابتاعته من محل رائق كوجهها، وألقته على صدري ليتدلى للخلف، هي تعرف أني ألبس «الشال» عكس الناس، ولا تجد حرجا بأن أمها تعيش بالمقلوب، حب نادر ذاك الذي يبقى فخورا بك، ولا يخجل ممن تكون!
منذ ذاك، اكتشفت لماذا تخنقني المدن الكبيرة، ليس لأني لا أحبها هي، بل لأني لا أحب أن يلتصق بي أحد، حتى أنا! يبدو أن لدي «فوبيا» المساحات، ومتلازمة «رفض الاقتراب»!
لم يترك العلماء للنفس المجنونة فسحة إلا زادوا بتفسيراتهم جنونها وتمردها وأعطوها العذر للمزيد، قد تكون هذه الأسطر أضغاث كُتّاب، وقدركم أن تقرؤوننا معنا، ولكن أليس فيها شيء منكم؟