أقلامهم

خلود الخميس: حزب الشعب الجمهوري أداة ضغط روسي داخل تركيا.

مظاهرات إسطنبول من الشجر إلى الخمر!
بقلم : خلود عبدالله الخميس
«منذ تقلدنا بلدية اسطنبول زرعنا من الأشجار ما لم يزرع في الثمانين عاما الماضية » جملة قالها رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان في خطبته عصر الجمعة أثناء تعليقه على أحداث التظاهرات التي شهدتها اسطنبول، قد يقرأها البعض عبورا، ولكنها ذات عمق وأبعاد ومغزى.
فالفترة الأتاتوركية بدأت قبل ثمانين عاما تقريبا، ولكن الازدهار السياحي، والنمو الاقتصادي، والحريات والممارسة الدينية، وتوازن اتجاه القبلة بين أوروبا والعرب والمسلمين، بدأت في عهد حزب العدالة والتنمية بقيادة «أردوغان» فهل المظاهرات حماية للشجر والحريات، أم ضد عقد من حكم جاهد وجاء من القمع والسجون للرئاسة ورسخ منظومة عدل حازت التأييد الشعبي؟ ولنعد بالأحداث لأسبوع قبل كلمة « أردوغان »، يوم الجمعة الرابع والعشرين من مايو، أقر البرلمان التركي قانونا قدمه الحزب الحاكم، ينظم استخدام الخمور في محافظات تركيا الواحدة والثمانين، لحظر بيع الخمور من العاشرة ليلا إلى السادسة صباحا حتى في المناطق السياحية، وبيعها قرب المساجد والمراكز التربوية والمدارس والجامعات، والإعلانات عن المشروبات الروحية، ورعاية شركاتها نشاطات عامة، وتشديد العقوبات على القيادة تحت تأثير الكحول.
بعد ذلك وفي الحديقة المقابلة لساحة تقسيم التي يتفرع منها شارع الاستقلال في مدينة اسطنبول، خيمت مجموعة من أنصار السلام الأخضر احتجاجا على تحويل المتنزه إلى مبنى تجاري، أي تحويل المدينة من الشجر للحجر، ولم يسمع لهم صوت، مجرد تجمع احتجاجي.
في يوم الجمعة الحادي والثلاثين من مايو صدر حكم قضائي بوقف بناء مشروع المبنى التجاري، الموضوع المزعوم للاحتجاجات، فلماذا انطلقت السبت تظاهرة كبرى في الساحة ضد مشروع أوقف قضائيا؟ إنها العلمانية ضد الأغلبية المحافظة في تركيا، ولن نقول ضد الإسلامية لأن الإسلام ليس في « تنظيم بيع الخمور» بل بحظره التام، وهذا مثل جلي ليقرأ العالم التركيبة الداخلية للشعب التركي، والمرتبطة بإثنيات وطوائف متعددة لها امتدادات خارج حدوده ومؤثرة على استقرار البلاد، حتى لا يصدروا أحكامهم على موقف الحكومة التركية لعدم عسكرة النزاع مع سورية، رغم الاستفزازات ومحاولات جرها لمواجهات بالقوة، فالإدارة السياسية لا تتطلب فهما للواقع فحسب بل تفهم له.
أيضا فيما سبق اقترح وزير الصحة خفض مدة الحمل للسماح بالإجهاض من عشرة أسابيع إلى ستة أو أربعة، وجاء تصريح أردوغان بأن الإجهاض جريمة، فربطها العلمانيون بأحكام الشريعة التي يعادونها لصالح أحكام «أتاتورك» فقامت قيامة الحرس القديم وحماة أسوار ما أسموه «القيم الكمالية».
فهل الشعب التركي علماني أم محافظ؟ الأرقام تقول انه محافظ، ففي الانتخابات البرلمانية 2011 حصل حزب العدالة والتنمية الحاكم على (50.2) ضعف شعبية حزب الشعب الجمهوري (الأتاتوركي) (25.9) وهذه إحدى خساراته المتتالية شعبيا فقد تخلت ولايات أنطاليا وهاتاي ومرسين وجنة قلعة عنه وصوتت بغالبية للعدالة والتنمية، لا غرابة فقد حقق خططه في رفع مستوى دخل الفرد، وأخرج تركيا من عزلتها عن العالم العربي وجعل منها لاعبا رئيسيا إن لم يكن الأول والأكثر تأثيرا على المستوى الإقليمي والعالمي ووفى بوعوده للشعب، وهذا ما تريده الشعوب إصلاحات داخلية، وهيبة خارجية.
وقفة متعمقة لبدء تشكيل حزب الشعب الجمهوري تبين امتداده السياسي من مؤسسيه (قياداته أرمن ونصيرية وعلوية) والبحث في تاريخه وقضاياه، تكشف ارتباطه بالمصالح الروسية، وتحميلها على كاهل تركيا، في الستينيات تظاهر ضد اللاجئين الأذريين من مذابح الحملات الشيوعية، في السبعينيات تظاهر لطرد المسلمين البلغار الناجين من حملات الإبادة، وتظاهر لطرد ممثل سفارة البوسنة والهرسك ولوقف الدعم التركي لهم أثناء حربهم مع الصرب والشيوعية، وقبل عامين تظاهر ضد موقف الحكومة التركية المضيف للاجئين السوريين واعتبروهم عبئا على الدولة وطالبوا بطردهم، ويعتبرون الربيع العربي خطة امبريالية، فاللاأخلاقية واللاإنسانية مبدأهم الراسخ، يرون أن «الغجر المسلمين الأتراك» عار على النسيج القومي التركي ويجب الا ينتموا للدولة.
إذن، فحزب الشعب الجمهوري أداة ضغط روسي داخل تركيا، وسهل معرفة البقية.
الحزب الحاكم تصدى وبحزم لمحاولات تهديد نمو الوطن وأمن المواطن ورخائه، سواء عند حزب الشعب وعنصريته، أو المؤسسة العسكرية التي أخرجها من اللعبة السياسية بعد أن عاث الجيش في الدولة فسادا بانقلاباته التي هزت استقرار الدولة وتطايرت بسببها رؤوس وأغلقت أحزاب وسجن ناشطون. أما منظمة «ارجنكون» المعشعشة في الدولة العميقة فمازالت الحكومة تلاحقهم وتحيلهم للقضاء، وللتفاصيل يمكن العودة لوثيقة وردت في لائحة اتهام المنظمة تسمى «اللوبي» أهم ما جاء فيها – باعتقادي – شرطها في القوى البشرية التي تحتاجها للعمل معها «محترفون مهنيون يعتنقون الأيديولوجية الكمالية، خبراء في وسائل الإعلام والتجارة الدولية والبنوك» و«الانتفاع بالطرق المشروعة وغير المشروعة» والبقية ليست إلا فروعا تنفيذية للشرطين!
إن تركيا دولة مدنية ذات دستور توافق عليه الشعب عند إعلانه وهو يحمي القيم العلمانية ويجرم معاداتها، وحزب العدالة والتنمية الحاكم، رغم إسلامية قيمه التزم بالدستور والقانون، واختارته الأغلبية المقترعة وهنا معادلة نجاح صعبة بل مستحيلة لولا أن الإرادة الشعبية عمودها الفقاري، والإخلاص في العمل على إرساء دولة القانون والمساواة في المواطنة.
إن نصر حزب العدالة والتنمية ليس مجاملة أو « فزعة » مناطقية عرقية مذهبية قبلية، بل لقدرات الحكومة الفائقة في الإمساك بزمام إدارة الدولة منذ فوزها وحتى اللحظة، بالإضافة لكاريزما قائده «أردوغان» وهيبته على مستوى عالمي خصوصا بترضيخ حكومة إسرائيل للاعتذار عن قتلها متضامني أسطول الحرية الأتراك وقبولها كامل شروط أنقرة لعودة العلاقات، وأخيرا إنجاز إغلاق الملف الكردي بإعلان أوجلان نزع السلاح والدخول تحت قوانين الدولة، وملف دين تركيا لصندوق النقد الدولي الذي بلغ الشهر الماضي صفرا.
بعدما سبق، أظن أنه من الغباء خروج شعب على حكومة ترتدي لباس الخدم في سبيل رفاهيته على مدار الساعة وبلا راحة وعطلات، ومن البهتان أن تسمى مظاهرات اسطنبول دفاعا عن الشجر والحريات العامة، ومن الجنون أن نصدق تدليس بعض الإعلام، وما أكثره.
ويبقى السؤال الذي لا يجرؤ أحد على إلاجابة عنه في تركيا علنا: هل غالبية الأتراك التي فضلت الحزب الإسلامي التوجه تتوق لمجد الحقبة العثمانية، ورأت فيه عبقها؟