أقلامهم

خلود الخميس: تحطيم «العثمانية» بعد أن بلغ اتساعها مبلغاً يهدد الفاتيكان «رمز المسيحية الأكبر».

محافظو تركيا.. دروس في «الصبر السياسي 2»  
بقلم: خلود الخميس 
ثم بدأت رحلة النضال الوعرة، نضال في سبيل أدنى حق للإنسان، وهو بقاء الشعب في الحفاظ على هويته الإسلامية، لا سيطرة المصطلحات الغربية مثل «الوطنية والقومية» تمهيداً لتغريب كامل في سلوك المجتمع بعدذاك، كما كانت خطة ورؤية كمال أتاتورك ومن ناصروه ويمثلهم سياسياً «حزب الشعب الجمهوري» الحزب الذي يفوز منذ تأسيسه بحماية المؤسسة العسكرية لا برغبة الشعب وتأييده، الحزب الذي يدعم «الطبقية الاجتماعية» فصنف البشر «صفوة ونخبة لها السياسة والاقتصاد والحكم» و«طبقة مقهورة» البيروقراطيون الحكوميون من الطبقة المتوسطة المتعلمة التي تميل للفقر ومستعدة لمجاراة الرؤساء واتباع الأوامر» و«طبقة عبيد» من الفلاحين والفقراء، واضطهدوا قوميات مثل الكرد والأرمن وغيرهم، وقسموا الدولة إلى أفضلية مناطقية وانتهجوا نظرية «فرق تسد» الشهيرة.
أما العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين فلم تكن مشاريع مطروحة عند حزب الشعب الجمهوري، بينما كلما توافرت فرصة للأحزاب السياسية الإسلامية بالمنافسة بلا تدخل العسكر، تنتصر.
كُتب الدستور في تلك الظروف، بأيادي من اعتبروهم «نخبة» المجتمع سياسياً واقتصادياً وبالطبع سُحب من المفتي ويسمى «شيخ الإسلام» صفة «النخبوية» لتشتيت التأثير الديني عن المشهد بتدرج سريع، زامنه نفي ومطاردات وإعدامات للبعض من العلماء والشيوخ والمفتين ممن تمسكوا بآرائهم الشرعية التي تعادي القيم العلمانية.
حدث ذلك في وسط فوضى التغيير المروِّع الذي صاحب تفكيك الأمة بتحطيم «العثمانية» كممثلة للخلافة وكدولة قوية ذات شوكة تحمي وتحتضن الإسلام بل وتنشره حتى بلغ في اتساعها مبلغاً يهدد الفاتيكان «رمز المسيحية الأكبر».
وبدأ نضال الوجود لإظهار الشعائر الدينية الإسلامية حتى لا يتطور الوضع لإخفائها فتندثر مع تراكم الزمن، الأمر الذي حدث فعلاً بعد فترة قصيرة في تركيا، فمُنع رفع الأذان باللغة العربية تكريساً للعصبية القومية، وضُيّق على مدارس الأئمة والخطباء، ومنع الحجاب للموظفات في المؤسسات العامة والمدارس والجامعات وبالطبع أصبحت المحجبة مشهداً مستهجناً في الشوارع حتى تخلت كثيرات عنه، ثم.. وثم.. وثم.. وهكذا من نحت جسد الإسلام حتى نحل، ولكن بقيت الفكرة والعقيدة بل زادت في داخل الفرد في تركيا كلما خنق العلمانيون ظهورها للخارج.
إنه نضال مستحق مبهر، خسر فيه كثيرون رؤوسهم ولكن كسبوا خلود أرواحهم المؤمنة بدينها، وأول تنظيم سياسي بهوية إسلامية أنشأ في الدولة التركية الحديثة منذ إلغاء الخلافة عام 1924 حزب «النظام الوطني» في 1970 وأسسه أربكان بدعم وتحالف مع الحركة النورسية، بدأ منه حياته السياسية بعد تخرجه في كلية الهندسة، وأصبح رئيسا لاتحاد النقابات التجارية ثم عضوا في البرلمان، ولكنه مُنع من المشاركة في الحكومات المختلفة بتهمة «معاداة العلمانية» وحُل «النظام الوطني» بعد تسع شهور فأسس مع التحالف ذاته حزب «السلامة الوطني» عام 1972 وهو الاختراق الأول الجدي الرافض للعلمانية والمعلن للهوية الإسلامية، وما كان فوزه بخمسين مقعدا ليشارك في 1974 بحكومة ائتلافية مع حزب الشعب الجمهوري العلماني الأتاتوركي نائباً لرئيس الوزراء، إلا دليلاً دامغاً آخر على ان الشعب التركي متمسك بهويته الإسلامية وأنه ما إن تسنح الفرصة له ليثبت ذلك ويظهرها على السطح سيفعل.
كان طريق المجاهد نجم الدين أربكان ( 1926-2011) شائكاً في سبيل هوية شعب تركيا الإسلامية، واليوم على درب معلمه يكمل «أبونجم الدين» رجب طيب أردوغان بعد أن قاد جناح الشباب المحافظ في «حزب الرفاه» فأسس مع عبدالله غل حزب العدالة والتنمية في 2001 عبر إخفاء الهوية الإسلامية وإعلان الهوية المحافظة، وتجنباً للمواجهة مع المؤسسة العسكرية أعلن الحزب أنه «سيتبع سياسة واضحة ونشطة من أجل الوصول إلى الهدف الذي رسمه أتاتورك لإقامة المجتمع المتحضر والمعاصر في إطار القيم الإسلامية التي يؤمن بها 99% من مواطني تركيا».
في 1980 قدم أربكان مشروع قانون للبرلمان، رغم خروجه من الحكومة، يطالبها بقطع العلاقات مع إسرائيل ضد قرار ضم القدس لها، فعمت تركيا مظاهرات عارمة تسانده، كانت بمثابة استفتاء على شعبية الإسلام السياسي بزعامته.
وكعادة المؤسسة العسكرية كحامية للعلمانية، بعد أيام قليلة انقلب قائد الجيش كنعان إيفرين على الحكومة وأطاح بالائتلاف الحاكم، واتخذت التدابير لإعادة القوة للعلمانية وشكل مجلساً للأمن القومي وعطل الدستور وحلت الأحزاب واعتقل الناشطين إسلاميين ويساريين فاكتظت السجون والمقابر وتوشحت المنازل بالسواد، مشهد يخيم كل فترة على الأوضاع السياسية في تركيا كلما اختار الشعب الإسلام.
التاريخ السياسي في تركيا منذ إعلان الجمهورية يؤكد أن هزيمة التيار الإسلامي في الانتخابات مستحيل إلا بائتلاف مختلف الأحزاب ضده، اليوم يتكرر المشهد، وتتكاتف الأحزاب علمانية، قومية ويسار ضد المحافظين في العدالة والتنمية وهذه المرة في الانتخابات الرئاسية لا البرلمانية، فماذا نتوقع أن تكون النتائج؟
نكمل في المقال اللاحق بإذن الله.

أضف تعليق

أضغط هنا لإضافة تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.