كتاب سبر

وماذا عن المقاطعة الثالثة؟

 في المقال السابق (المقاطعة.. هل نجحت أم فشلت؟) تطرقنا لمكاسب وتكاليف المقاطعتين السابقتين لمجلسي ديسمبر 2012 و2013 وعرضناهما بميزان خدمة المشروع السياسي للقوى المعارضة لنهج الانفراد السلطوي الذي أتى بعد مرسوم الضرورة بتعديل النظام الانتخابي. وفي هذا المقال سنكمل المقال السابق بالإجابة على السؤال الأهم والذي تركناه معلقاً في ذلك المقال ألا وهو (وماذا عن مقاطعة الانتخابات النيابية القادمة؟) والمتوقع أن تجرى في منتصف العام المقبل.

فكرة هذا المقال ليست حديثة وقد طرحتها للنقاش مع آخرين داخل وخارج المعارضة السياسية حتى تولد ما أعتقد أنه فكرة ناضجة تقيم المرحلة السابقة وتحدد الاحتمالات المتوقعة للمرحلة القادمة وعلى ضوئها تتحدد الخيارات الممكنة للقوى والتيارات السياسية المعارضة، ولكني ارتأيت تأجيله قليلاً حتى هذا الوقت تحسباً لبيانات بعض القوى السياسية التي ستعلن تراجعها عن خيار المقاطعة السياسية واستعدادها للمشاركة في الانتخابات البرلمانية المقبلة.

ومن الضروري قبل الخوض في تفاصيل هذا المقال والإجابة على هذا السؤال المهم والشائك أن يعي القارئ الخطأ الكبير الذي يقع فيه الكثيرين ممن يتناولون موضوع المقاطعة والمشاركة، وهو اعتبار المقاطعة “هدفاً” لذاتها لا “وسيلة” سياسية تستخدم متى ما كانت تخدم “الهدف” السياسي المطلوب، فليس هنالك أسوأ ممن يشارك لأجل المشاركة فقط، إلا من يقاطع لأجل المقاطعة فقط. وهنا يمكن التفريق بين من “يستخدم” الوسائل السلمية الشرعية المتاحة لخدمة المشروع السياسي، وبين من “يعبد” الفكرة و”تستعبده” أو يرى فيها الخيار الأوحد لاستمرار الهالة الإعلامية أو السياسية إلى مدى أبعد. لذا ليس من المعيب تغيير الأدوات السياسية متى ما كان من الصالح العام تغييرها، وليس من المحرم الانتقال بالصراع السياسي من ميدان إلى ميدان آخر تكون الظروف فيه أفضل أو “أقل سوءاً”.

ومن الضروري أيضاً أن يتساءل المهتم بالشأن السياسي، هل المقاطعة لا تزال أوجب؟ وهل لا تزال هي الخيار الأنسب؟ بالتأكيد، أن المقاطعة لا تزال أوجب لو كانت لا تزال تحقق المكاسب للمشروع السياسي الذي اختارته المعارضة ونزلت للشارع وقاطعت المجالس النيابية السابقة من أجله ألا وهو “إسقاط مرسوم الإرادة الفردية”، لكن هل حققت المقاطعة هذا الهدف أم لا؟ أو على الأقل هل تسير في خطها الإيجابي لتحقيق هذا الهدف أم لا؟ وعلينا أن نكون صادقين مع أنفسنا قبل أن نكون صادقين مع الآخرين، بأن المقاطعة بلا حراك فعلي لا قيمة لها، وللأسف هذا هو الحال منذ ما بعد انتخابات مجلس 2013، مقاطعة تنظيرية لا تأثير حقيقي لها، تتمحور حول أغلبية محبطة لا تجتمع إلا نادراً وإذا اجتمعت عقدت ندوة لا يحظرها إلا قلة قليلة من ممثلي الصحافة والإعلام وتكاد تكون خالية من الجمهور، أو مجموعة من الناشطين السياسيين في وسائل التواصل الاجتماعي لا يتعدى نشاطهم التضامن الاجتماعي عبر الهاشتاقات التي أصبحت بلا جدوى حقيقية على الأرض! سُجن النائب السابق مسلم البراك ولغاية اليوم لم تصدر الأغلبية بياناً عن سجنه، وأعتقل العديد من الشباب وأكاد أجزم أن كثير من الأغلبية السابقة القائدة للشارع لا تعرف أسماء المعتقلين، وقس على ذلك الكثير، ويمكن للمتابع أن يتصور وبدقة عظيمة سيناريو الأعوام القادمة إذا ما استمرت القوى السياسية في المقاطعة.

لذلك دعونا نطرح القضية والموقف على شكل تساؤلات محددة لعلها تجيب على الكثير من الأسئلة التي طرحت خلال الأيام القليلة الماضية وتكون بمثابة الدليل لمن يريد أن يقرأ مستقبل الساحة السياسية بشكل عقلاني وصادق.

إذا كانت المقاطعتين السابقتين قد نجحتا، فلماذا لا تستمر المقاطعة؟

مما سبق ذكره في المقال السابق وفي الفقرات الأولى من هذا المقال، أن المقاطعتين السابقتين قد حققتا أهدافاً عظيمة اختصرت العمل السياسي في البلاد أعواماً وأعواماً ما كان ليتحقق لو استمرت المعارضة بالعمل ضمن المنظومة السياسية المعتادة من خلال البرلمان وضمن الوسائل التشريعية والرقابية المتاحة. لكن ليس بالضرورة أن يكون ما قد نجح في فترات سابقة ناجحاً في المستقبل، وقد سبق أن وضحنا المكاسب والتكاليف، ولن تحقق المقاطعة الثالثة مكاسباً جديدة في ظل سلبية القوى السياسية وانعزالها عن الشارع وتراجع الدعم الشعبي الواضح لها. بل ستكون أربع سنوات جديدة من الخسائر على جميع المستويات الوطنية والتاريخية.

الا تعتبر المشاركة شرعنة للفساد ولنهج الانفراد بالقرار؟

ليس هنالك أكثر شرعنة للفساد أو دعماً لنهج الانفراد بالقرار من المقاطعة والجلوس في البيت في انتظار نتائج وقرارات سلطة تشريعية ملزمة في قوانينها على جميع المشاركين والمقاطعين على حد سواء. المقاطعة التي لا تمتلك حلولاً واقعية يمكن تطبيقها وممارستها على أرض الواقع هي مشاركة في استمرار الفساد والنهج القمعي.

لن تحقق الأغلبية إذا شاركت، فلماذا تشارك؟ 

ليس بالضرورة أن تحقق الأغلبية في البرلمان لتكون مؤثراً، وصوت الحق يعلو ولا يعلى عليه هكذا علمتنا تجاربنا السياسية في مجلس الأمة، ففي مجلس 2009 كان عدد النواب المحتجين على أسلوب ونهج رئيس الوزراء آنذاك ناصر المحمد لا يتعدى 8 نواب، في مقابل 41 نائباً بالإضافة إلى وزراء الحكومة، ومع ذلك نجح الضغط النيابي الذي يستمد قوته من الدعم الشعبي في أن يقلب الموازين إلى أن وصل العدد إلى أكثر من 22 نائباً في الجانب المعارض وبقية القصة التاريخية معروفة ومشهورة لدى القارئ. لذا ولو كان الوصول بالحد الأدنى إلا أنه أفضل بمراحل من السلبية التي اتسمت بها المقاطعة خلال السنوات القليلة الماضية والمتوقع استمرارها خلال الأعوام القادمة في ظل ممارسات سلطوية تجاوزت الحدود والعقل.

وإذا شاركت ووصل مجلس جيد، سوف تقوم السلطة بحل المجلس مجدداً؟

هذا أمر متوقع وممكن حدوثه وسابقاته عديدة، لكنه بلا شك أفضل بكثير من أن تحل نفسك بنفسك عبر مقاطعة سلبية لا تؤثر في المشهد السياسي ولا تمنع تدهوراً ولا تحقق تقدماً. وإذا كان الحل المتكرر محرج للسلطة أكثر منه للقوى المعارضة في السابق، فإن الحل المتكرر في ظروف ما بعد انكشاف فشل السلطة في إدارة البلد في ظل غياب المعارضة هو أكثر إحراجاً وتكلفة مما مضى.

وماذا عن المعتقلين والمسحوبة جناسيهم والمنفيين أو المهاجرين للخارج؟

مما لا شك فيه أن هذه القضية يجب أن تكون القضية “الأولى” لأي مشاركة قادمة، وأن يكون هدف رفع الضرر عمن تضرروا من جراء تعسف السلطة وانتهاكاتها للحقوق الوطنية والإنسانية من أهم الأهداف المشاركة سواء برفع الضرر المباشر أو بالسعي لتعديل القوانين المجحفة التي سمحت للسلطة بهذا التعسف الخطير. ونحن هنا أمام أمرين لا ثالث لهما، إما مشاركة (قد) تنجح في معالجة هذا الملف الخطير وتعديل القوانين، أو أمام مقاطعة (سلبية) محكوم عليها بالفشل مسبقاً ولن تغير في الظروف السياسية المحيطة بهذه الملفات، وأعتقد أن الخيار لمن يفكر بواقعية بعيدة عن العاطفة واضح جداً.

السلطة تبحث عن “شرعية” لم تجدها في المجلس الحالي، فلماذا تسلمها هذه الشرعية؟

الشرعية في هذا الإطار تنقسم إلى قسمين شرعية “قانونية” وشرعية “شعبية”، والشرعية القانونية، كما بدا من سير الأحداث في الفترة الماضية، ليست محل قلق للسلطة أو المجلس الحالي في ظل وجود أحكام للمحكمة الدستورية، والمأزق الحقيقي الذي كان ولا يزال يهدم كل تحركاتهم هو مأزق الشرعية الشعبية في ظل وجود مقاطعة كبيرة للانتخابات ولأعمال المجلس القائم ولغياب التيارات السياسية “المعتبرة” عن التمثيل البرلماني والمشاركة، وهذا ما نجحت في تحقيقه المقاطعتين السابقتين حتى الآن على الأقل. لكن جولة سريعة في مواقع التواصل الاجتماعي أو في تجمعات الكويتيين في الدواوين أو غيرها تجعل الواقعي يجزم أن المشاركة في الانتخابات القادمة لن تقل نسبتها عن 70% وهذا سوف يترك 30% من الناخبين خارج التصويت وإذا خصمنا منها النسبة الطبيعية لغير المشاركين لاعتبارات لا علاقة لها بالشأن السياسي فهذا سوف يصل بالنسبة إلى ما بين 15% و20% من إجمالي عدد من يحق لهم المشاركة الانتخابية، وهنا يمكن للمعارضة أن تتوقف عن ادعاء “الشرعية الشعبية” والتي سوف تنتقل تلقائياً للمجلس القادم رضينا ذلك أم لم نرضى.

أضف إلى ذلك أن من حسن حظ المخلصين من الشعب الكويتي أن مجلس الأمة الحالي قد قضى أكثر من ثلاثة أرباع مدته وهو يعيش تحت هاجس “الشرعية الشعبية” وهذا أمر له تأثيره الواضح في الحد من اندفاع المجلس ونوابه إلى جانب القوانين غير الشعبية في محاولة منهم لعدم الظهور بمظهر المجلس غير الشعبي، ولكن المجلس القادم مهما كانت تركيبته سوف لن يكون تحت هذا الهاجس، وعليكم أن تتوقعوا حجم القوانين والكوارث القادمة في ظل امتناع القوى والتيارات السياسية عن المشاركة والحد من تغول السلطة على الحقوق والمكتسبات الشعبية.

لماذا الاستعجال، قد تتغير الظروف المحلية أو الإقليمية لأسباب لا علاقة لها بالحراك؟ 

احتمال وارد وممكن، ولكنه في نهاية الأمر يبقى احتمال، في مقابل حقيقة مؤكدة أن استمرار السلطة بدون رادع شعبي أو نيابي، ولو بسيط، هو كارثة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ولا أعتقد أن أحداً على استعداد لتقبل التفريط لأربع سنوات أخرى تحمل لنا قوانين قمعية أخرى وتنتقص من المكتسبات الشعبية في انتظار “احتمالات” قد تحدث وقد لا تحدث. 

تبقى حقائق مؤكدة يجب أن لا يتغافل عنها من بيدهم اتخاذ قرارات المشاركة أو المقاطعة، أن تجربة المقاطعة الشعبية ليست امراً مستحدثاً في الكويت بل سبقتها إليه شعوب عدة، وبعضها نجح إلى فترة معينة وفشل بعد ذلك، وبعضها لم يحالفه النجاح منذ البداية، ولنا في تجربة حزب العدالة والتنمية التركي خير مثال وهو قريب من ظروف واقعنا الحالي، ففي نهاية التسعينيات حلت المحكمة الدستورية، بإيعاز من السلطة العسكرية هناك، حزب الفضيلة بقيادة نجم الدين اربكان، وانقسم بعد ذلك الحزب إلى حزبين، حزب السعادة، وقد اختار المضي بذات الأسلوب السابق الذي اتبعه اربكان ومواجهة السلطة القمعية، وحزب أنشأه “شباب” الحركة باسم “حزب العدالة والتنمية” الذي اختار إعادة تشكيل أسلوب مواجهته للسلطة واللعب معها في ميدانها الذي اختارته حتى نجح في الوصول إلى رأس السلطة التنفيذية وأصبح وجوده واقعاً لم تستطع المحكمة الدستورية ولا سلطة العسكر التعامل معه أو حله مثلما حدث مع سابقه.

هذا الأمر يقودنا إلى السؤال الأخير وهو: هل نشارك لأجل المشاركة فقط؟ 

لا وألف لا، يجب أن تتوافق القوى السياسية المعارضة والمقاطعة على برنامج سياسي موحد يتمحور حول أهداف الحراك السابقة منذ 2012 وحتى الآن، وأن تتضافر الجهود بدلاً من توزيعها ما بين مشارك محدود ومقاطع سلبي والدخول في المعركة الانتخابية عبر هذا البرنامج الذي يمكن الأمة من استعادة دورها المسلوب ويوقف تغول السلطة وانتهاكاتها للحقوق الوطنية والمكتسبة.

سبق أن ذكرت في تغريدة بتاريخ 17/يونيو/2013 أن (قرار المقاطعة صعب .. وقرار المشاركة أصعب) .. ولكن مسؤولية القوى السياسية “الوطنية” أن تتخذ القرار “الأنسب” مهما كانت صعوبته.

سعود عبدالعزيز العصفور