أقلامهم

كمال أوزتورك : بدء مرحلة تغيير الأنماط الفكرية الرئيسية في تركيا

بدأنا إجراء المزيد من التحليلات بدم بارد. كما بدأنا تجاوز الصدمة التي شهدنا تفاصيلها والحزن لما سقط من شهداء وجرحى. ليس لدينا متسع من الوقت. علينا أن نفعل الكثير من الأشياء في الوقت نفسه.

ليلة 15 يوليو الماضي، بدأت في تركيا نقلة نوعية كبيرة تشمل الأنماط الفكرية السائدة، وتحمل في طياتها تحديًا كبيرًا، وتغييرًا جذريًا للنظام.

لقد أظهر لنا تلك الليلة، كيف أن بإمكان الشعب أن يكتب مصيره، ومستقبله، ويحقق أمنه، ويحافظ على استقلاله، وحريته حيث قال أفراد الشعب “سننام تحت الدبابات، ونوقفها بأيدينا، ونقفز على متن الطائرات، ونطفئ لهيب الرصاص في صدورنا، لكننا لن نسلم وطننا لأي أحد”، فعلًا قالوا ذلك وفعلوا، لذا نجحوا، هكذا تكون الإستراتيجية السياسة الواقعية لشعب بطل مِقدَام.

هل ستغير تركيا محورها؟

شرع أردوغان في الفترة الأخيرة، على توجيه الرسائل التي تشير إلى رغبة تركيا بالابتعاد عن الغرب، والتوجه نحو “خماسية شنغهاي”.

ومع ذلك، فإن الغرب لم يجعل من أردوغان هدفًا له، لرغبة الأخير في تغيير محوره، بل لأنه يصر على عدم تنفيذ كل ما يطلبه حلف الأطلسي ولأنه يطرح خارطة طريق من أجل تركيا، ولأنه بات يشكل بديلًا ثالثًا في المنطقة.

نستطيع القول إن ذلك يشبه مرحلة “الشتاء العربي” التي جاءت لإجهاض مسيرة الشرق الأوسط نحو التحول الديمقراطي وامتلاك الإرادة الحرة، وعليه فإن تركيا باتت تمثل الآن “المعقل الأخير”، وجميع الهجمات التي تجري الآن هي من أجل إسقاط هذا المعقل.

إن أردوغان لم يفكر بتغيير المحور الذي تقع فيه تركيا، ولكنه لم يكن قط عبدا يفعل ما يؤمر، هو يتصرف وفق خارطة طريق خاصة ببلده، يعترض من خلالها على ما قد يمس أمنه ومصالحه. وهو الآن يريد خلق توازن بين المحاور، ويرسم إستراتيجية خاصة لتحقيق الأمن ومواجهة الهجمات الخارجية. وهذا ما سيتطرق إليه اجتماع أردوغان مع بوتين.

العلاقة مع الولايات المتحدة

لا تولوا أهمية لما يقولونه حول “هناك إجراءات يجب اتباعها لإعادة غولن إلى تركيا، يجب تقديم أدلة، ويجب تأسيس لجنة لتقييم ذلك”، فإدارة الولايات المتحدة، واللاعبون الفاعلون فيها وراء هذه المحاولة الانقلابية. هم حاليًا يعانون من صدمة فشل المحاولة، ويحاولون كسب المزيد من الوقت، وحياكة مؤامرات جديدة لا أكثر.

فالمجرم المختل غولن، يتم استخدامه من قبلهم ليس فقط في تركيا، بل في أكثر من 160 بلدًا. علاوة على ذلك هم قلقون من إمكانية اعترافه بكل شيء، في حال تم تسليمه إلى تركيا. لذا لن يقوموا بتسليمه أبدًا، ولن يسمحوا له بالانتقال إلى بلدان أخرى أيضًا. لا داعي لأن نكون سذّجًا، فقد ضغطوا حتى على اليونان كي لا تسلم الـ “8 انقلابيين” الذين فروا إليها، وهم أيضًا من مددوا لأولئك فترة المحاكمة شهرًا إضافيًا.

ارتكبت الولايات المتحدة خطأ كبيرًا. حيث حاولت القيام بانقلابٍ في بلد قوي وحيوي ويمتلك مكانة جيوسياسية مثل تركيا. لقد قامت بهذا الفعل مع علمها أن مثل هذه المحاولة ستؤدي إلى زعزعة جميع التوازنات، والعلاقات، والنماذج الفكرية. فهي كانت أمام خيارين، إما وضع يدها على إدارة البلاد أو نشر فوضى عارمة تشلُّ بها حركتنا. وقد تكون الولايات المتحدة قد دعمت هذه المحاولة بموافقة من إدارة أوباما أو دون علمها. لا تفسير آخر لما حدث.

جميع البيانات والتصريحات الرسمية الأمريكية، ستكون دائمًا تؤكد على عمق الصداقة لكن العمليات التي تجري من تحت الطاولة ستبقى مستمرة. وتركيا تنتظر مثل تلك الهجمات الجديدة. أما أردوغان لن يصدق أبدًا تصريحاتهم وبياناتهم الرسمية التي تحض على “السلم والصداقة”.

لذا سيجري التحول الأول في العلاقات التركية مع الولايات المتحدة، وستغير تركيا أنماطه الفكرية ووسائل التعامل الخاصة به.

تغيير في النظرة تجاه روسيا

لقد شن الغرب حروبًا إعلامية شعواء، ركزوا من خلالها على فرضية تقول إن “تركيا تنوي الخروج من حلف الأطلسي، وتتجه نحو الدخول بحلف روسيا / آسيا”، لهذا نفهم الآن سبب وقوف طيارين متغلغلين في الجيش التركي ويتبعون لتنظيم الكيان الموازي/ فتح الله غولن ومحور الناتو (حلف الشمال الأطلسي) بإسقاط الطائرة الروسية على الحدود التركية مع سوريا. عملوا على تدمير العلاقات التركية الروسية، ولم يسعوا لمنع تركيا من الانضمام إلى محور روسيا/ آسيا، بل إغراقها في الفوضى والأزمات تمهيدًا لضربها. وللعلم فإن مسألة الطائرة التركية ستكون من القضايا المطروحة على الطاولة في اجتماع أردوغان وبوتين.

تركيا اليوم تناقش أكثر من أي وقت مضى، أهمية عدم التصرف كحليف للولايات المتحدة وأوروبا، وضرورة خلقها توازنًا ضد تلك القوى، وكيفية القيام بذلك.

وللحقيقة، فإن تحولًا جذريًا نحو محور روسيا/ آسيا لا يعتبر أمرًا مناسبًا بالنظر إلى وضع تركيا الجيوسياسي والاجتماعي التقليدي، لكن وفي الوقت نفسه، لا يعتبر مبدأ معاداة محور روسيا/ آسيا ووضع كل البيض في سلة الوحش الأطلسي من مبادئ الحكمة السياسية.

لذا سيتم التوصل إلى اتفاق مع محو روسيا/ آسيا، من أجل عقد علاقات شراكة اقتصادية قوية، بالتأكيد سيطرأ تغييرٌ كبير على النظرة تجاه العلاقات السياسية والاقتصادية وكذلك العسكري مع هذا المحور.

دور دحلان في المحاولة الانقلابية

من المعروف الدور النشط الذي يلعبه محمد دحلان ضد تركيا. وبالمناسبة دحلان الذي تدور إشاعات حول دوره في دعم المحاولة الانقلابية الفاشلة يعرف أيضًا أنه يقيم في دولة الإمارات العربية المتحدة وتربطه علاقة وثيقة بولي عهد أبو ظبي.

وقد كتب الصحفي، ديفيد هيرتس، في مقال له بموقع “عين الشرق الأوسط”، أن دحلان كان ممولًا للانقلاب في تركيا ومستشارًا إستراتيجيا له. تركيا اليوم تناقش هذا الموضوع، وفي حال تم إثبات ارتباط هذا الشخص وعلاقته بالمحاولة الانقلابية فيحتمل وقتها أن تواجه إمارة أبو ظبي أزمة دبلوماسية خطيرة.

السياسة الداخلية والأيديولوجيات والجماعات

بعد محاولة الانقلاب الفاشلة شهدت تركيا تناميا في روح التضامن والوحدة الوطنية والتركيز على القواسم المشتركة بين التيارات الحزبية والأيديولوجية.

كأنما الإسلاميون والقوميون واليساريون والليبراليون، والقوميون الأكراد، والعلويون قد استيقظوا فجأة من كابوس رهيب، وقالوا “لولا وجود الوطن لما كان أحد منّا هنا الآن”. اتحدوا وتصدوا معًا للدبابات.

بدأت في تركيا مرحلة تغيير الأنماط الفكرية، وسنشعر بذلك في كافة المجالات، ولا شك في أن منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي ستتأثر أيضًا.

وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم.