أقلامهم

استراتيجية “أم القُرى”!

يتنامى لدى بعض الكتّاب العرب وغيرهم الحديث عن إصلاح العلاقات العربية – الإيرانية، خصوصًا العلاقات مع دول الخليج بقيادة المملكة العربية السعودية، ويذهب هذا البعض إلى النصح بالتحول الاستراتيجي عن المواجهة إلى الحوار.

يغيب عن هذا البعض أن دول الخليج في أكثر من مرة ومقام حاولت أن تفعل ذلك، إلا أن التركيبة الإيرانية في السلطة بسبب تعددها، وتعلقها الآيديولوجي، لم تكن لتستجيب الاستجابة المتوقَّعة من الدولة. يرى البعض أن هذا الصراع هو استهلاك للقوى وتبديد للطاقة، وهو صحيح، كما يرى بعض البعض أن إيران تتقدم في مصالحها ونفوذها على حساب العرب، وهو تحليل غير ناضج وتنقصه الشواهد. من المبكر الحديث للقارئ عن استراتيجية «أم القرى» الإيرانية التي سوف أعود إليها، ولكنني أولاً سوف أتناول فكرة «التقدم قي المشروع الإيراني»!

هل تتقدم إيران في العراق مثلاً؟! إذا كان كذلك فما حاجتها إذن للتدخل القوي والفعال لجيش الكرد (البيشمركة)، وما حاجتها للإسناد الدولي الواسع من دول التحالف على كثرتها، فلو كانت قادرة على التقدم في هذه الجبهة لما احتاجت إلى كل تلك القوى! وهل تتقدم في سوريا؟ من جديد لو كانت تتقدم وتستطيع أن تحافظ على بقاء حليفها الأسد، فما حاجتها إلى ميليشيات «حزب الله» وميليشيات الهزارة الأفغانية، بل ودولة عظمى، هي روسيا، وبعد خمس سنوات طوال من الحرب والدعم المالي والعسكري والإنساني؟! وهل تتقدم في لبنان؟ أم أن إرسال السيد وزير الخارجية الإيراني إلى بيروت هو فقط من أجل أن يُخدع البسطاء بأن إيران انتصرت هناك! لو كانت قد انتصرت لما رأينا سعد الحريري يشكل الوزارة، ولا رأينا سمير جعجع يدخل محازبيه إلى تلك الوزارة، فكلاهما مع قوى لبنانية أخرى لها ثقلها، مثل «الكتائب»، لا تدخل في شراكة مع إيران، وربما بانتخاب ميشال عون توقف تمدد المشروع الإيراني، لأن الأفضل لذلك المشروع هو الشغور الرئاسي، لا وجود شخص قد يطرح الوطنية اللبنانية على ما عداها من أولويات. أما في اليمن إن كان مشروع طهران يتقدم مع الحوثي فما حاجتهم لعلي صالح، الذي توافقت مصالحه الآن مع الحوثي، ولكنها لا تتوافق معه على المدى المتوسط؟!
باختصار، المشروع الإيراني في المنطقة يتعثر، رغم كل ما يحيط به من بروباغندا، ورغم كل ما يدفع فيه من مال وسلاح!
عدم الذهاب إلى الحوار من قبل إيران هو بسبب ذلك التعثر، وليس بسبب ذلك «الانتصار الواهم». الأصل في الموضوع كله أن الجمهورية الإسلامية حتى الساعة لم تستطع أن تبني الدولة، بمعنى الواجهة الواحدة التي يمكن أن يتحدث معها العالم، وهذه وثيقة «أم القرى» تؤكد على ذلك، وهي وثيقة الإضاءة عليها قليلة في الإعلام والسياسة العربية. الوثيقة بعنوان «مقولات في الاستراتيجية الوطنية: شرح نظرية أم القرى الشيعية» من تأليف محمد جواد لاريجاني، وقد ترجم النص إلى العربية المتخصص في اللغة الإيرانية السيد نبيل علي العتوم. وموجود معظم نص هذه الوثيقة على الشبكة الإلكترونية. اختيار عنوان «أم القرى» له معنى، فالمراد بها اعتبار إيران «مكة»!
تقول تلك الوثيقة بعد مقدمات حول التدبير والمقدرة، تصل إلى صلب «الاستراتيجية»، إن «إيران هي أم القرى»! وإنها بصفتها تلك الحاملة للإسلام الصحيح، هي ليست (إحدى الدول الإسلامية) والذي يقول ذلك (تقول الوثيقة) يتجاهل الوضع التاريخي للشعب الإيراني.. هي كل الإسلام! وانتصار أو هزيمة إيران هي انتصار أو هزيمة الإسلام!
ويسأل الكاتب: هل هناك حكومة في أي مكان من العالم الإسلامي همها الأساسي هو الإسلام؟ «إننا نحمل رسالة دينية ومسؤولية إسلامية بأن نحافظ على إيران بصفتها أم القرى»، لذلك تقول الوثيقة: «يجب أن يكون مد نظرنا قيادة العالم الإسلامي»، وإذا كانت هناك «تكاليف» مالية لأم القرى فليس ذلك مهمًا! وجذر الأمن، كما تقول الوثيقة، هو «المحافظة على النظام»، فالنظام مثل الجسد، له كرامة مادية وكرامة معنوية! تستطرد الوثيقة بالقول: «الكرامة المادية للنظام في الأرض والعرق واللغة! أما الكرامة المعنوية فتظهر في الدستور وفي الفكر الحاكم، وأي تهديد للنظام هو تهديد للكرامتين معًا!».
ترفض الوثيقة القبول بما سمته «التقسيمات الحدودية الظالمة، لأن الإسلام أمة واحدة، يجب أن يقودها (الولي الفقيه)»، وفي مكان آخر من الوثيقة تقول: «إن كان هناك اختيار بين الحفاظ على (أم القرى) وتعطيل بعض الشعائر (كالصلاة والصوم) فذلك جائز، لأن المهم هو بقاء حكم (أم القرى)، كما تمثلت في ولاية الفقيه!».
الوثيقة مكونة من مائة وسبع وستين صفحة من القطع المتوسط، ومتوسعة في تأكيد المهمة «الإلهية» في وجوب التوسع في الجوار، وبعده بسط السلطة على أرض الإسلام! الوثيقة لها روح وثائق النازية المعروفة من «إعلاء العرق» و«حمل الرسالة الإنسانية والعالمية»، بصرف النظر عن التضحيات البشرية والمادية أو حتى القوانين الدولية ومتطلباتها.
أمام هذا النوع من الفكر الذي صاغه السيد لاريجاني محصلة لممارسات الدولة الإيرانية، وهو ليس شخصية هامشية، بل يُعتبَر المفكِّر للنظام على وزن سوسولوف المفكر السوفياتي في الربع الأخير من حياة الاتحاد السوفياتي، يخلط الفكر الأرسطي بواقع الحال المعيش! ما نعيشه إذن فكر دولة كاملة ونظام متكامل في العدوانية والتوسع، وليس فكر مجموعة تصغر أو تكبر، ويترجم في الواقع بشكل عملياتي، ويستخدم كرافعة للعزيمة القتالية والتضحوية للجماهير الإيرانية، على أن انتصارهم وحكمهم للأرض ومن عليها ليس ببعيد، مُطعَّمًا بالطبع ببعض الخرافات التاريخية.
من هنا، فإنه من السذاجة ما نسمعه من بعض المحللين بأن الدولة الإيرانية يمكن في شكلها الحالي وتركيبتها الآيديولوجية أن تذهب إلى مكان ما من الحوار العقلاني، خصوصًا مع جيرانها العرب، الذين تخلط بينهم وبين ما تسميه «الاحتلال العربي»، أيضًا بين النظرة الفوقية للإعلاء القومي الآري..! مثل هذا النظام من الحمق أن يقتنع أحد بأنه قابل للحوار!!
آخر الكلام: منع الحجاج الإيرانيين من الذهاب إلى الحج، أو استهداف مكة بالصواريخ هي أعمال تنسجم مع استراتيجية «أم القرى»