أقلامهم

الطريق الثالث في المشروع الوطني الفلسطيني

وسط ضبابية الوضع الإقليمي العربي والعالمي، وفي ظل الشعبوية العالمية، تستمر الأزمة في الوضع الوطني الفلسطيني بينما تحقق إسرائيل نتائج لمصلحة استعمارها عبر استخدام القوة حول كل حق من الحقوق وكل قطعة أرض في فلسطين. لا يبدو من الأجواء الراهنة أن حركتي «فتح» و «حماس» ستنجحان في الاتفاق بينهما لتخفيف حدة اندفاعة المشروع الصهيوني الذي يستهدف الأرض كما الإنسان. فالحركتان ساهمتا بطريقتهما وفي مراحل زمنية مختلفة بإبطاء المشروع ومواجهته من دون أن تنجحا في إيقاف تمدده، فمن خلال الكفاح المسلح ومن خلال قيادة الانتفاضات سعت الحركتان الى وضع كوابح أمام الصهيونية وفي طريق استعمارها لمزيد من الأرض الفلسطينية. وحدها غزة عبر «حماس» خاضت حروباً منفردة عدة وأبدت قدرة على الصمود كما قامت بأعمال مسلحة كبرى، ووحدها «فتح» قامت بأعمال مسلحة ومدنية دامت منذ العام ١٩٦٥ وانطلقت من أراضٍ عربية في الأردن وسورية ولبنان، بل خاضت «فتح» حروباً كبرى ومواجهات لا حد لها في فلسطين، وشكلت الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي شهدت تأسيس «حماس» ثم الثانية التي شاركت فيها «فتح» و «حماس» حالة ثورة متكاملة في مواجهة المشروع الصهيوني. لقد انهكت كل هذه الحروب والمواجهات حركتي «فتح» و «حماس» كما أنهكت الشعب الفلسطيني الذي ما زال يواجه وحده مشروع استعمار فلسطين.

من جهة أخرى، وبينما تقاتل إسرائيل في ظل مشروع القومية اليهودية والتدين القومي اليهودي، نجد أن الفلسطينيين العرب، وهم جزء من الشعب العربي والعمق الإسلامي، يواجهون المشروع الاستعماري وحدهم وضمن تقسيمات الإقليم العربي الى دول منفصلة منذ عام ١٩١٨. بمعنى آخر، الصهيونية بصفتها الشكل العنصري للقومية اليهودية، تعتمد على يهود العالم وقوتهم المالية وقدراتهم الفكرية وتعتمد على عمقهم في الغرب وخبراته، بينما الفلسطينيون يواجهون عدواً متفوقاً من دون العمق العربي وبلا القومية العربية او الإسلامية. لهذا فإن أسلحة الصهيونية والدعم الذي تحظى به من قبل قوى متعاطفة مع الدولة اليهودية في الغرب فرض نفسه على ميزان القوى. وبين الحاضر وإمكانية وبروز العمق العربي مجدداً، لا بد من قيام الفلسطينيين بأعمال ونضالات تسمح لهم بالصمود ووضع كوابح حقيقية أمام المشروع الصهيوني.

ويجب التنبه الى أن كلاً من «فتح» و «حماس» أصبحتا في موقع سلطة وهذا يعني إغراق كل منهما بمسؤوليات سلطة نظام سياسي. لنتناول حركة «حماس»، فأصبحت سلطة سياسية في غزة منذ ٢٠٠٧، وهي لهذا تعاني من المشكلات التي تعاني منها السلطات السياسة العربية، لكن فوق ذلك تعاني من حصار دائم من البر والبحر والجو من إسرائيل في جانب، ومن النظام المصري في جانب آخر، وغزة إقليم مكتظ بالسكان، إذ وصل عدد سكانه الى مليونين بينما يقع على مساحة صغيرة من الأرض لا تتعدى ٣٦٠ كلم مربع. إن الكثافة السكانية في القطاع هي الأعلى في العالم، فوصلت الى 4822 فرداً في الكيلومتر المربع الواحد.

وتعاني «حماس» بسبب قيادتها قطاع غزة المشكلات التي تواجهها كل سلطة عليها مسؤوليات تجاه السكان والاقتصاد والموارد. وهذا يعني أنها تواجه أزمة السكان الاقتصادية وحاجاتهم الصحية والتعليمية. وتمثل هذه المشكلات العميقة تحديات كبرى لحركة تحرر وطني في أرض محاصرة ومحتلة. ويضاف الى كل هذا الفيتو الأميركي مما يضيف الى الحصار. لهذا جاء البيان السياسي الذي أصدرته حركة «حماس» في نيسان (أبريل) ٢٠١٧ محاولة لفتح باب في حصار يؤذي الشعب والسكان ويفتت المجتمع كما يؤذي حركة «حماس». وتمتلك «حماس» قوة مسلحة مهمة في غزة وقوة سياسية وشعبية في مناطق مختلفة وفي أراضي الضفة الغربية، وهذا مرتبط بإرثها النضالي. لكن هذا الوضع غير قادر على إحداث تغيير في الميزان العام، ولا هو قادر على إحياء المشروع الوطني الفلسطيني بصفته مشروعاً نضالياً تحررياً يسعى الى فرض الإنسحاب وتحقيق شروط العدالة والمساواة والعودة.

أما حركة «فتح»، كبرى المنظمات الفلسطينية وقائدة النضال الوطني منذ بدء الكفاح المسلح عام ١٩٦٥ فهي الأخرى أصبحت سلطة سياسية منذ ١٩٩٤، وتعمل ضمن الآليات التي أقرتها اتفاقات اوسلو والتي تقوم منذ ١٩٩٤على مبدأ الانسحاب الإسرائيلي بهدف قيام الدولة الفلسطينية في أراضي ١٩٦٧ في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية. لكن هذه المناطق المقرة عالمياً للدولة الفلسطينية تم استيطانها بصورة كبيرة وتم إقتطاع جزء كبير منها لمصلحة الصهيونية والقومية اليهودية، وهذا يعني أن إسرائيل تخلصت من اوسلو من خلال الاستيطان. لقد أصبحت «فتح» سلطة على جزء صغير من الضفة، وفي هذا الجزء لا تتحكم بالمعابر ولا بالاقتصاد ولا تملك السيادة.

وبصفتها السلطة الفلسطينية تتحمل حركة «فتح» مسووليات تجاه التعليم والعمل والأعمال والتوظيف والصحة، لكنها في الوقت نفسه تعاني من سياسات إسرائيل الهادفة الى كسرها. ففي كل يوم تصادر إسرائيل أراضي جديدة فهي تصادر حقوق السلطة، وفي كل يوم تمنع قادة السلطة من الإنتقال، فتصادر حقوقاً تأتي مع السيادة، وفي كل لحظة تعتقل إسرائيل وتقتل فلسطينيين من مناطق تحت سيطرة السلطة كرام الله ومحيطها والخليل ونابلس وغيرها. إسرائيل تدمر السلطة بهدوء وروية وتسعى الى مصادرة كل حقوق السلطة. ولم تعد «فتح» بسبب طبيعة العلاقة بينها وبين السلطة الفلسطينية قادرة على مواجهة الاحتلال الا بمفاوضات يعرف العدو مسبقاً ماذا يريد منها. لكن السلطة من جهة أخرى تعرف انها اذا تحدت إسرائيل وأوقفت التنسيق الأمني معها ستخسر وربما تتعرض لعقوبات وربما للإنهيار كسلطة.

هذه مرحلة تسير نحو الانهيار، فهي جزء من مشهد عام يهب على العالم العربي. لقد وقعت الثورات منذ ٢٠١٠ وجاءت الثورة المضادة منذ ٢٠١٣ التي ساهمت في تدهور أوضاع النخب العربية وتراجع قدراتها في طول البلاد العربية وعرضها، وهذا لا بد من أن ينعكس على فلسطين. لكن الوضع الفلسطيني هو الآخر دفع ثمناً كبيراً عندما ثار في الانتفاضة الثانية عام ٢٠٠٠ والتي استمرت سنوات عدة وانتهت باستشهاد الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات. هذه المرحلة الراهنة ستصل الى طريق مسدود، وبما أن الأطراف المسيطرة على الساحة الفلسطينية لا تملك الأدوات اللازمة لخلق حالة جديدة، فعلى الأغلب سيأتي التغيير من زوايا أخرى ومن مكان آخر ومن نقاط قوة يمتلكها الشعب الفلسطيني.

فلسطين ستنتج طريقاً ثالثاً، والطريق الثالث سيكون طريقاً شعبياً، يأتي من الحالة الشعبية الخائفة من المستقبل والتي تحمل المشروع الوطني في روحها وتجربتها. هذا يعني وقوع عملية جمع لكل الظواهر المقاومة في الشارع الفلسطيني في ظاهرة أكبر وضمن رؤية أوضح. في هذا الإطار تقع هجمات السكاكين، ونمت ظاهرة باسل الأعرج الذي اغتالته إسرائيل والتي تمثل محاولة مبدعة للمزج بين دور المثقف مع حالة التمرد على القوانين والثورة على الإحتلال. ويمثل إضراب الأسرى توجهاً جديداً يضيف الى الإضرابات الفردية للأسرى. وعلى رغم دور الفصائل في «فتح» و «حماس» و «الجبهة الشعبية» وقياداتها لإضراب الأسرى ودور مروان البرغوثي المميز في صناعة الإضراب، فان الإضراب يعكس الطريق الثالث للمقاومة الآتية من خارج السلطات الرسمية في «فتح» و «حماس». فالإضراب يعكس مبادرات جاءت من أسفل الهرم ومن قاع المجتمع ومن طلائعه التي ما زالت تحمل تصورات نضالية وكفاحية. إضراب الأسرى تعبير عن التيار المناضل في التاريخ الفلسطيني، ويمثل بحد ذاته سعي أفضل الكوادر الفلسطينية في «فتح» و «حماس» لقيادة تغيير من خلف القضبان. لم تعد المرحلة المقبلة متوقفة على وحدة حركتي «فتح» و «حماس»، وإن كانت الحركتان في حالة وحدة في السجون، بل المرحلة المقبلة متوقفة على القدرة على اكتشاف الطريق القادر على ضخ الروح في مشروع وطني فلسطيني جديد بعد تراجع مشروع الدولة الفلسطينية في الضفة وقطاع غزة وفي القدس الشرقية.