أقلامهم

“الإنفلونزا الإسبانية”

رفضت إسبانيا أن تنحاز إلى أيٍ من طرفي الحرب العالمية الأولى(1914-1918). هذا الحياد منحها ميزة فريدة عن بقية دول أوربا، وهي حريّة الصحافة.

فعندما تنشب حرب ما، فإن أول شيء تقوم به الدول المتورطة في الحرب، هو فرض الرقابة على الإعلام، فيصبح الرقيب العسكري هو رئيس التحرير الفعلي، فيمنع نشر أي أخبار قد تؤثر على الروح المعنوية للشعب، كأخبار الهزائم وأعداد القتلى.
أصبحت الصحافة الإسبانية مصدرا تستقي منه الصحافة الأوربية والعالمية الأخبار والمعلومات التي يمنعها الرقيب.
وعندما حل شهر مارس 1918م كانت الحرب في أوجّها وسط أوربا حيث تخوض قوات التحالف(بريطانيا وفرنسا وروسيا وأمريكا) قتالا شرسا ضد قوات المحور(ألمانيا والنمسا).
في تلك الأثناء بدأت الصحافة الإسبانية تنشر بعض الأنباء عن انتشار مرض الإنفلونزا!
كان خبرا تافها وسط أخبار الموت الجماعي على أرض المعركة، فـ”الموت وحده يجعل كل الموضوعات الأخرى تافهة”.
تزايدت أنباء تفشّي مرض الإنفلونزا، ودقّت الصحافة الإسبانية ناقوس الخطر من إمكانية تحوّل المرض إلى وباء خطير بسبب ظروف المعارك وكثرة الجنود وازدحام الجبهات والخنادق وانعدام الدواء!
بدأت صحافة العالم تهتم بهذه الأنباء فأطلقت على الإنفلونزا اسم الإنفلونزا الإسبانية، ليس لأن إسبانيا مصدر هذا الوباء بل لأن الصحافة الإسبانية هي أول من أعلن النبأ.
وفي أغسطس 1918م ضربت وسط أوربا موجة عنيفة من وباء الإنفلونزا، فبدأ عشرات الآلاف من الجنود يتساقطون موتى على أرض المعركة ولكن حتف أنوفهم كالمدنيين!
يرى بعض الخبراء أن الوباء قد ساهم كثيرا في انتصار قوات التحالف في الحرب. ويعزون ذلك إلى أن تأثير الوباء على قوات دول المحور كان أشد كثيرا من تأثيره على قوات التحالف. فمال ميزان القوى لمصلحة التحالف حتى أعلنت ألمانيا إيقاف الحرب في نوفمبر 1918م.
خلال أشهر قليلة، كان الوباء قد انتشر في كافة أنحاء العالم ليصيب 500 مليون إنسان وهو ثلث عدد سكان العالم آنذاك.
كان الوباء قاتلا وسريعا بشكل فاق تأثير وباء الطاعون الذي كان أكثر رحمةً بالبشر من الإنفلونزا، فعندما ضرب الطاعون إحدى مدن فارس عام 1850م قتل كل السكّان ماعدا غسّال الموتى الذي يبدو أن الطاعون قد استبقاه كي يدفن الموتى!
بينما حصدت الإنفلونزا كل من لقيته في طريقها..الجنود، الأطفال، الممرضات، الأطباء، القرويين، وحفّاري القبور.
فاكتظت الشوارع بجثث القتلى التي لم تجد من يدفنها، بعد أن هجر الناس المدن والقرى خوفا من العدوى.
في بداية عام 1919م بدأ وباء الإنفلونزا بالانحسار التدريجي حتى عادت الحياة إلى طبيعتها عام 1920م.
استمرت الحرب العالمية الأولى 4 سنوات واستُخدمت فيها كل أنواع الأسلحة بما فيها الأسلحة الكيماوية، فحصدت حياة 9 ملايين إنسان، في حين أن وباء الإنفلونزا استمر 9 أشهر فقط وحصد حياة أكثر من 50 مليون إنسان.
انتهت الحرب العالمية الأولى واختفت على إثرها 4 إمبراطوريات هي العثمانية، الألمانية، الروسية، والإمبراطورية النمساوية.. وبقيت الإنفلونزا عصيّة على الطب والتقدّم العلمي وشركات الدواء، والكمّادات الباردة التي أضعها، الآن، على رأسي.