أقلامهم

نيران صديقة.. وخفافيش الظلام

أفاق وطني الكويت من سُباته بعد أكثر من ثلاثين عاماً منذ سنة ١٩٨٦ ليجد نفسه في غربة شديدة، فقد اختلف عليه كلُّ شيء.. أبناؤه بعضهم تنكّروا له وتآمروا عليه؛ فهم حصيلة مكوّنين؛ الأول مواطنة مصلحية تشكّلت بمعطيات انتخابية وحركة تجنيس وترتيبات سياسية قصدت تغيير ديموغرافية الشعب، فصار العديد من هذا المكوّن غايته اقتناص منافع الجنسية والتنكّر لقيم الولاء للوطن بمنطق المصلحة والمنفعة واستدرار المواطنة جنياً للمال وتحقيقاً لوجاهة أو ثراء سريع. والثاني مكوّن أغلبيته حوّلت الوطن إلى مشروع تجاري مؤقت؛ فتاجروا بالوطن بيعاً وشراء في مختلف الأصعدة، وتلوثت أيديهم بالاستيلاء على المال العام بكل الطرق، فوجدوا أن إفساد ذمم الناس ودغدغة مشاعرهم بعطايا والفتات وسيلة لإشغالهم وجعل همّ الوطن آخر اهتمامهم، ونجحوا في تحقيق ذلك، بعد أن أساءوا الى تاريخ الآباء والأجداد وتراثهم وألقوه وراءهم، فأضاعوا الماضي والحاضر، وفي كلا المكونين يذهلك كيف نزع من هؤلاء الحسّ الوطني تجاه وطنهم وأهله. والمؤلم أن هذا التحوّل لم يكن أمراً عفوياً وطبيعياً، إنما كان عملية ممنهجة وترتيبات مبرمجة تم تنفيذها بمراحل عديدة وبأنماط متماثلة، (منذ حل مجلس الأمة سنة ١٩٨٦ مروراً بــ «الــ٢٥ دائرة» وتعليق حرية الصحافة، والعبث بقوانين الحريات والجنسية، فالمجلس الوطني، و«العشر دوائر بأربعة أصوات»، وشرعنة المراسيم بقوانين، وتوظيف المال العام كمال سياسي، وغيرها)، وساهمت في هذا التحوّل أطراف عدة، منهم من هو من النخب الفكرية أو التجارية أو السياسية أو الاجتماعية، ومنهم من هو من الرموز السياسية، التي يعتقد الناس بأنهم رموز وطنية، فكانت عضويتهم بمجلس الأمة أو الحكومة وسيلتهم في ذلك، ومنهم من هو قد تقلّد منصباً وزارياً أو حكومياً رفيعاً، فتمكّن هؤلاء، سواء من كان مدركاً ومشاركاً في احداث التغيير، أو من كان يبارك ويساند ذلك، أو من قَبِلَ أن يتم توظيفه للقيام بهذا الدور فنفذ المطلوب منه، بعدما سخّر نفسه ووضعه أداة لذلك؛ طمعاً في مال ليس له حق فيه، أو حفاظاً على منصب لا يستحقه، أو تحقيقاً لمنافع للأقرباء والأصدقاء ــــ وتذهلك الشخصيات الضالعة بهذا الدور ــــ لذلك، كنّا نرى عملاً سياسياً وفكرياً واجتماعياً غير منتج، يسوده صراع مقيت، جميع أطرافه ظاهر نيرانهم أنها صديقة، لإيهام حَسَني النية والجمهور العريض من المصفقين الذين يقادون بأن نيرانهم مأمونة، وهي في حقيقتها تنال من الوطن وتدميه، فانطلى الأمر على كثير من النخب والشخصيات والتيارات السياسية والفكرية ــــ الخاوية من المشروع الوطني ــــ لتتدافع بضيق أفق باصطفافات فكرية أو سياسية ليست ناضجة تصبّ في مصلحة خفافيش الظلام، كي تدمي الوطن بمزيد من النيران الصديقة، فضيعت المشروع الوطني، وفرّطت في الحفاظ على الثوابت الوطنية السياسية والدستورية والدينية والثقافية، وبددت قيم التسامح والتعايش والتعاضد وثقافة الاختلاف واحترام الرأي الآخر التي كانت دائماً وأبداً تميز الكويتيين، فصار ذلك هو السلوك السائد، فتآكل الوطن ووهن عَقْدهُ الاجتماعي الذي كان هو الفيصل بالنسبة إلى الوطن، إن غشيته عاديات الدهر، ووجد خفافيش الليل التي تحسن التآمر على الوطن في جنح الظلام ضالتهم في الهيمنة على بعض الأمور، في ظل محاولاتهم بإفراغ الدستور من مضامينه وتآكل بعض المؤسسات، وإجهاض القوانين والأنظمة وإهدار الحريات وضماناتها، ويبقى أن الأمل هو في المعدن النقي لأهل الكويت بأن ينهضوا ويفزعوا لأجل الوطن ليستأصلوا خفافيش الليل وأدوات نيرانهم الصديقة التي لم تبق ولَم تذر في الوطن موضعاً إلا وأوهنته.