كتاب سبر

الإخوان المسلمون.. وقضية الاجتثاث

منذ «الربيع العربي» 2011، ومنذ سقوط حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي في مصر عام 2013، بدأت حملات منظمة؛ منشؤها أجهزة دول تستهدف شخصيات من تنظيم الإخوان المسلمين في طول الوطن العربي وعرضه. وقد أصبحت هذه الحملات أكثر زخماً في السنوات الماضية، من دون مبررات لاستمرار هذه الشيطنة التي تعطي الانطباع، وكأن «الإخوان المسلمين» وراء أزمات مصر والإقليم التي تضاعفت منذ 2013.

لم يكن هناك أي مبرر لترك الرئيس الأسبق محمد مرسي يموت بهذه الطريقة في سجنه، كما ولم يكن هناك مبرر لاعتقال القيادي المصري المتزن عبدالمنعم أبو الفتوح، الذي ترك «الإخوان» في 2011، ولم يكن هناك مبرر لاعتقال ناشط حقوقي كعلاء عبدالفتاح، أو كما لم يكن هناك مبرر لعشرات الألوف من الاعتقالات في طول الوطن العربي وعرضه، والتي تعكس أزمة عميقة، لن تختفي في المدى المنظور. فالكثير من الدول العربية لا تميّز بين العمل السياسي السلمي والرأي المستقل، والسلوك العنيف، وهي تضع كل من ينتقد سلطة أو حكومة في سلة واحدة مع كل من يقوم بعمل عنيف وإرهابي.

«الإخوان المسلمين» تيار سياسي سلمي، سيتراجع عندما لا يقتنع الناس بموضوعاته، كما وسيزداد زخما عندما تكون موضوعاته منسجمة مع قيم الناس واحتياجاتهم. كما أن «الإخوان» ليست تياراً واحداً اليوم، لقد مر تيار الإخوان المسلمين بما تمر به كل التيارات من تغييرات. فعبر العقود ومنذ خمسينيات القرن العشرين دعمت هذا التيار دول عربية وأنظمة، إما من أجل توازن القوى المجتمعية وإما لمواجهة المد القومي الشعبي العربي، وقد استمر هذا الدعم لعام 2011 ولبداية «الربيع العربي». فهناك اليوم الإخوان القدامى، وهناك الإخوان الشباب، وهناك من تركوا الإخوان وأصبحوا أكثر تحررا من الإرث الايديولوجي من دون أن يتنكروا لحق هذا الفصيل السياسي في العمل السياسي. لكن هناك من الإخوان من انشقّ عنهم وانشغل بمدارس العنف، تماماً كما خرج من الأحزاب الشيوعية بادر ماينهوف وجماعات عنف، أو كما انشق عن الإسلام في البداية الخوارج والإسماعيليون (الحشاشون)، بصفتهم الفصائل الأشد عنفاً في التجربة الإسلامية.

إن الصراع الراهن لشيطنة الإخوان، سواء أكانوا في الكويت أم في مصر وأماكن أخرى في الجزيرة العربية، هو صراع من أجل السيطرة بين دول وشخصيات ترى أن الاجتثاث هو المدخل. لكن يجب الحذر من روح الاجتثاث والتعميم العام على تيار مدني، لديه عمق اجتماعي، لا يمكن الالتفاف عليه. هذا لا يعني ايقاف حق النقد والاختلاف مع التيار، لكن روح الاجتثاث سترتد على الذات، وستكشف أبعاده في المدى المنظور والمتوسط. إن التعددية وبناء مساحة ضمن الاختلاف لا بديل عنهما لاستقرار دول الخليج، كما ودول عربية عدة، وما الدعوة إلى إلغاء التعددية والتحريض عليها إلا حل قصير المدى لمحبي السيطرة المطلقة، لكن ذلك سيؤدي إلى أزمات ستعبّر عن نفسها بمزيد من التفكّك والحروب الأهلية العربية ـــــ العربية.

فما الخطر الذي تمثله جمعية نفع عام، تطرح رأيا مستقلا، أو تيار سياسي، كالإخوان أو السلف أو التيارات الدينية الشيعية أو التيارات الحقوقية والليبرالية بأنواعها، طالما أنها تلتزم الإطار السياسي والعمل السلمي؟ وبطبيعة الحال، يجب أن تقع أخطاء في علاقة الدولة بهذه التيارات، وسيقع الصراع السياسي حول الكثير من المسائل، لكن ذلك يجب ألا يعني الاجتثاث. ففي كل مجتمع تيار للمحافظين وآخر لليبراليين وتيارات في الوسط وتيارات حقوقية وبيئية وتيارات تمثّل المرأة والأقليات وغيرها، وهذا يجب الحفاظ عليه في الواقع العربي كما هو قائم في الكويت وتونس، على سبيل المثال.

وهل استفاد العراق من سياسة اجتثاث البعثيين، أم نتجت عن ذلك حرب أهلية، وسيطرة تيارات أخرى، وإيران بصورة شاملة؟ وماذا استفادت سوريا من اجتثاث «الإخوان» ومجازر حماة 1982؟ ففي حماة 1982 بالتحديد، بدأت بوادر الثورة السورية 2011، في المقابل مهما كانت فاعلية الاجتثاث فإنه مؤقت ويخدم أولا الدول الإقليمية الساعية إلى توسعة نفوذها، كما أنه يخدم أنصار التغيير الشامل، أكان سلبيا أم إيجابيا، لنتذكر أن اجتثاث البعث العراقي أنتج «داعش» وأخواته، وساهم في تمدد إيران الإقليمي. الأمر نفسه ينطبق على تيار الإخوان، فالاجتثاث لن ينهي التيار، بل سيؤدي إلى تيارات جديدة أقل مرونة وأكثر خبرة. لقد وقعت، على سبيل المثال، القطيعة بين «فتح» و«حماس» منذ 2008، وماذا كانت النتيجة؟ لم تضعف «حماس» ولم تتراجع «فتح»، والمستفيد من القطيعة الشاملة كان هو الاحتلال الإسرائيلي.

لو كان الاجتثاث مفيدا لاجتثت أميركا التيار الديني الإنجيلي الأكثر تطرّفاً. بل لو كان الاجتثاث منطقيا لاجتثت الصهيونية تياراتها الدينية المتطرفة والدينية. إن استنساخ تجارب الاجتثاث كتجربة اجتثاث الحزب النازي في ألمانيا هو استنساخ في غير مكانه، فالحزب النازي قتل ملايين الناس ودفع نحو حرب عالمية قتلت 60 مليونا. أما الاجتثاث الذي مارسته دكتاتوريات، مثل الأرجنتين والتشيلي في السبعينيات فأدى الى حالة استبداد وصراع أهلي انتهي بثورات وإعادة الاعتبار لكل التيارات.

ويرى أنصار الاجتثاث في العالم العربي أن الصراع مع إيران ومع تركيا يجب أن يتم في الوقت نفسه، كما أن الخلاف مع «حزب الله» وحركة النهضة يجب أن يقع في الوقت نفسه، ومع ليبيا ومع الحوثيين أيضا في الوقت نفسه، كما ومع قطر و«الإخوان المسلمين» في الوقت نفسه. إن متصدّري الاجتثاث قلما يلتفتون إلى قضايا الإنصاف والعدالة وحقوق الإنسان وحق التعبير. فتلك بالطبع، قضايا أصعب، وتناولها قد يزعج قوى مسيطرة ومتنفذة.

إن توجّهات الاجتثاث محكوم عليها بالفشل، فهي ستستنزف كل الأطراف المعنية، بما فيها التي تمارس الاجتثاث، فتلك الأطراف ليست بعيدة عن الأزمات المقبلة. ليست هناك سياسة صائبة في الشيطنة، وذلك لأن الشيطنة المنتشرة في عالمنا العربي وفي منطقة الخليج مكشوفة للمجتمع وللنخب خاصة، لأنها تغطية واضحة للفشل في الإدارة والسياسة وتغطية أيضا على الفساد والتقصير، الذي يمس المواطنين وحقوقهم الأساسية واحتياجاتهم.

د.شفيق الغبرا / القدس العربي