كتاب سبر

تركي الفيصل مع إسقاط النظام الإيراني.. وماذا بعد؟

لاقيا الترحيب الحار من أكبر حشد شعبي إيراني يلقاه في حياته لم يجد تركي الفيصل كلاما يرد به على هتاف حماسي مجلجل غير أن يرد على مضمونه بالإيجاب: وأنا أريد إسقاط النظام.

كان الحشد الإيراني يهتف بصوت واحد ويهز الجدران: الشعب يريد إسقاط النظام، فأجابهم الفيصل بمثله وهو يعلم تماما ما يقصدون، فالمملكة العربية السعودية التي يمثلها بوقفته وشخصيته وصفته في هذا المؤتمر السنوي الباريسي للمقاومة الإيرانية ليست بلدا عاديا، فهي بلد يعرف الإيرانيون ثقل حجمه وثقل قراره عندما ينحاز علنا إلى معارضتهم لنظام تخوض معه حربا مفتوحة على عدة جبهات، عسكرية وسياسية وعقائدية وإعلامية، ودون أي فرصة للتفاهم أو التلاقي في منتصف الطريق.

لقد تغول نظام الملالي وأحرق أشرعته سادّا الطريق على العودة عما سار فيه ضد أمن ووحدة واستقرار جميع الدول العربية ومن دون استثناء بما في ذلك السعودية التي يخوض معها حرب تهديد مباشر عبر عملائه في اليمن، وحرب كسر عظام وإرادات في سورية، وعبر مواجهة عملية احتلال كامل للعراق، وكذلك عبر التصدي لتخريب بلد مهم في فضاء السياسة والنفوذ السعودي هو لبنان الذي يتعطل كدولة ويتم تخريب خياراته الحرة بعيدا عن تغول النفوذ الإيراني.

وكلا الجانبين (النظام والمعارضة) يعرف أهمية الثقل السعودي، فالرياض بالنهاية وبغض النظر عن التباينات في التفاصيل تعني المنظومة الخليجية كلها، ولهذا نرى هذا الغضب الإيراني المتعاظم منها، فبعد عاصفة الحزم وضعت السعودية العصي في دواليب المشروع الإيراني برمته بل عطلت حركته وسدت بوجهه الأفق كليا، فهو على وشك أن يلفظ أنفاسه في اليمن، ويواجه مأزق ارتداد العراق ضده، ولا حل ولا خيار للموقف في سورية غير هزيمة التدخل الإيراني وكذا في لبنان،.

الأهم من ذلك كله، أن (القومة) السعودية منذ عاصفة الحزم وتحديدا منذ مجيء عهد الملك سلمان عرّت وفضحت المشروع الإيراني وأبطلت مفاعيله الدولية، وأثبتت للعالم بالدليل القاطع أن الرهان على نظام الملالي – ضمن صفقة الملف النووي – لحفظ الأمن ومواجهة الإرهاب في المنطقة هي رهان خاسر، وغير مجدٍ، وأن أيا من دول المنطقة لن تقبل دورا إيرانيا خارج حدوده، فضلا عن فتح الملفات كلها لإثبات عجز هذا المشروع وخوائه وعدم قدرته على التعايش مع سواه، فضلا على أنه السبب الأساسي في الانقسامات والقلاقل الطائفية التي أفرزت ظاهرة الإرهاب ودولة (داعش) والمأساتين السورية والعراقية.

وفوق هذا اكتشفت الوفود الزائرة لإيران بعد انقطاع سنوات أن هذا البلد خرب من الداخل، وتديره مؤسسة يعمها الفساد من أعلى الهرم إلى أدناه وأن فرص تحقيق فوائد اقتصادية معه منسدة تماما، كما أنه يعاني من غليان شعبي متعدد الوجوه، عرقيا ومذهبيا، مع انعدام للموارد والأموال اللازمة.

أما الجانب الثاني (المعارضة الإيرانية) فتدرك وفق السالف من معطيات المشهد أن السعودية إذا رفعت أمنياتها بزوال النظام الإيراني إلى درجة الإعلان الصريح، فهذا سيقرب مسافة ومدة عودتها إلى طهران بالنصر المؤزر.

والسعودية ليس بلد مغامرات سياسية غير مدروسة.

كلنا يعلم هذا، وهي عندما ترسل شخصية من الأسرة الحاكمة بحجم تركي الفيصل فهي تكون قطعت شوطا من مباشرة سياسة لا هوادة فيها ضد نظام طهران وبما لا يمكن الرجوع عنه.

صحيح أن الفيصل لا يحمل صفة رسمية.. بمعنى أنه ليس رئيسا للاستخبارات السعودية الآن!

هذا صحيح، لكن هل يظن ظانّ بأن الفيصل حل على باريس من رأسه!؟..

هل يظن ظانٌّ بأن تركي الفيصل أعد كلمته أمام مؤتمر المعارضة الإيرانية في فندقه بباريس وهو يشرب القهوة ويتخيل الوضع منفردا لوحده!؟

إن كل مراقب ومتابع لما يجري يدرك – وإن حرصت السعودية على قول ذلك – بأن الملك سلمان شخصيا موافق بل هو الموجه لكل حرف قاله تركي الفيصل، ولذلك عندما هتف الفيصل مجيبا نداء المعارضين الإيرانيين الملح: وأنا أريد إسقاط النظام فالذي قال المقولة عمليا هو الملك سلمان شخصيا.

هذا غير ما يمثله من: محاربة الإيرانيين بنفس أسلحتهم، وتهديدهم في عقر دارهم تماما كما يهددونا في أعقار ديارنا، يمثل أيضا فرصة عظيمة لوضع حد للفوضى العارمة التي أحدثها وجود هؤلاء الملالي في دفة السلطة منذ عام 1979، فوجودهم أشعل شرارة الحروب والطائفية والإرهاب واستنزاف المنطقة كلها.

أما الخطير والحيوي بالأمر فهو أن (المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية) الذي حظي بهذا الدعم السعودي المعلن، يمثل العمق العميق للكينونة الإيرانية بعصبها (الفارسي) والشيعي كمكون رئيسي للمجتمع الإيراني، فهؤلاء (مجاهدي خلق) خرجوا في السنوات الأخيرة من شبهة (العمالة) لعدو قومي (صدام حسين)، وهم أجبروا على التواجد في العراق لأن كل البلاد كانت مغلقة بوجوههم، وبالتالي فالنظام الإيراني فقد الآن حجة وصفهم بالخونة والمنافقين، وهم لم يذهبوا إلى السعودية بل هي جاءت إليهم في معقلهم السياسي والإعلامي الأوروبي.

وهؤلاء يقدمون للعالم الحر فرصة مراهنة على قوى متحضرة متأنسنة مختلفة عن نظام توليتاري كهنوتي يحكم بنظرة أحادية، فضلا عن أن احتضان أوروبا لهم إدانة ضمنية لأي تعاون مشبوه مع الملالي.

نحن أمام واقع جديد يتشكل في المنطقة، وسواء طال الوقت أم قصر، فالنهاية باتت معروفة، وهي أن رحلة زوال نظام الديكتاتورية الدينية في إيران بدأت، أما الهوامش على جنبات المشهد فكثيرة، فتركي الفيصل وسط الجمع الإيراني المعارض إبطال ساحق للدعاوى التي تصور السعودية دولة شيطانية وهابية تكفيرية داعشية تبغض (أهل البيت)، وما يماثل من (أناشيد) يتخذها الملالي وسيلة تحشيد عنصري ومذهبي لشعوبهم ضد العرب وحكوماتهم.

لقد وجه الفيصل بكل ما قاله رسالة تبطل هذا وتنزع منه الفعالية، فنحن كعرب نمد اليد إلى الشعب الإيراني للتعاون والسلام، وفي هذا تحول خطير مهم، وكفاية.. عظيمة.