أقلامهم

أقلامهم | تركي الدخيل يكتب: في الطريق إلى مانهاتن

كنت في الطائرة المتجهة إلى نيويورك، وحين تسافر إلى نيويورك تأتي الترجمة العربية الحرفية في رأسك دون أن تستعيدها حتى – المدينة الجديدة – وكأنني في كل مرة أزورها أقطع تذكرة للعبور إلى العالم الجديد، قادمًا من العالم القديم.

سافرت في خيالي بعيدًا، كيف لمدينة أن تبدأ بجوار الماء على مصب فم نهر «هدسن»، الذي يصب في ميناء محمي طبيعيًا، ثم في المحيط الأطلسي، أن تسمى مباشرة بالمدينة الجديدة، وأن يكون لها بعد كل هذا من اسمها وافر الحظ والنصيب؟

نيويورك التي غنى لها سيناترا.. حتى غدت أغنيته للمدينة احتكارًا، كما احتكر السياب أنشودة المطر بصوت محمد عبده، نيويورك التي لا تكف عن الازدحام ولا تعرف معنى النوم، نيويورك التي يأتي إليها الناس لألف حاجة، وينصرفون وقد اشتروا كل شيء وبقي في النفس منها ألف حاجة، الميناء الأقدم للقارة الجديدة، حيث حارب الهولنديون الهنود الحمر، وحيث نزل الآيرلنديون وهاجر إليها السود كي يكتبوا أروع الأغاني في الحانات الخلفية لهارلم، نيويورك التي كبغداد القرن السادس لا ترد من أتاها عن حاجته، وتعطي يدها لكل من يشتهيها، لكنها تحافظ على مسافة واحدة من الجميع، أنا صديقة الجميع لكن لا صديق لي!
نيويورك التي أعشقها؛ لأن سدس سوق النشر العالمي والصحافة والإعلام يصنع هاهنا، هنا تبدأ الأخبار بالاستيقاظ من كل الجهات، نشرات الأخبار الساخنة، وهنا يركض مستثمر ناجح فوق الأرض بسيارته الفاخرة، بينما يترنح رسام ثمل في القطار الثاني العائد ليلاً إلى برونكس أو متجهًا إلى بروكلين.
تحب اللون الأخضر بينما المدن الأخرى ترفض ذلك، تعال إلى نيويورك، واذهب إلى السنترال بارك لترى كيف يمكن للرأسمالية أن تخفف وطأها قليلاً كي يتنفس الآخرون داخل أكبر حديقة صناعية في العالم، نحن لا نبحث فقط عن أفعال التفضيل، لكننا ننحاز للأخضر حين نصمم كل تلك الغرف الضيقة التي لا يعرف فيها الجار جاره، تعال إلينا، وحين تتعب من المشي تمشّ قليلا واصعد عتبات الحضارات عتبة عتبة، على بعد أمتار معدودة يجاور التاريخ اللون الأخضر كأن الطبيعة أخت التاريخ الوفية، هنا المتروبوليتان، حضارات الشرق والغرب، ضع هذه اللصقة على أي مكان من قميصك واعتبرها جواز سفر لكل جهات الأرض، اصعد قليلاً قليلاً، ستجد فناني عصر النهضة خالدين بالألوان على الجدران فسيحة الصدور، فرس يكاد من صدق ألوانه يصهل، حبيبة لن تسقط من النافذة، متحف للقطات الخاصة حتى بالنوم والأحلام، غرفة دمشقية تبكي على مدخلها حين تتذكر النوافير التي أكلها القصف وسواها بالأرض، كلمة الرسول العربي عن أهل اليمن: «أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة وألين قلوبا، الإيمان يمان والحكمة يمانية»، وأحزن وحدي حين أتذكر أن الشام لم يعد شامًا تحت قصف الجزار، وأن اليمن ما عاد حكيمًا بعد أن أصبح جوهرة في كف فحام.
نيويورك التي لها ألف وجه في كل ساعة من نهار أو ليل، تجعلك تائهًا مهما كنت عارفًا جهة الطريق، كل الوجوه بشر كرام يساوي بينهم القانون، من يضربك بالكتف خطأ يعتذر، وقد تكون تلك الكلمة الأكثر شيوعًا في نيويورك: «سوري.. سوري.. لقد كاتفتك بالخطأ»، استمتع في رحلتك خلف أي شيء في العالم الجديد، حتى لو كنت تركض خلف بوكيمون خرج للتو من المتحف العجوز، حيث كل الأفكار كانت اسمًا بعد حلم.. تمامًا.. كما سمينا هذه المدينة الجديدة قبل مئات الأعوام.. ولا تزال جديدة هي نيويورك في كل حين.