كتاب سبر

“الدستور أولا”.. احتراماً لدماء الشهداء

الآن فقط أدركنا أننا أخطأنا عندما اخترنا “الانتخابات أولا”، وانصعنا لرغبة التيارات الإسلامية التي ترغب في القفز على مقاعد البرلمان، وليحدث بعدها ما يحدث، ما دامت  أخذت نصيبها من الكعكة.
كان الجدل محتدما، “الدستور أولا، أم الانتخابات أولا”، وقلنا حتى بح صوتنا، يجب أن يكون الدستور أولا، وطالبنا بأن يتم وضع دستور للبلاد، قبل أن يصل الفلول وأذناب النظام السابق إلى البرلمان، ولم يستمع إلينا أحد.
الجدل الدائر حاليا في مصر، حول وثيقة المبادئ فوق الدستورية، التي تريد الحكومة والمجلس العسكري أن يمرراها، وتعطي صلاحيات بطريركية، وإلهية للمجلس العسكري، في الوقت الذي انشغلت فيه كل الأحزاب بالاستعداد للمعركة للانتخابية، يكشف أننا كنا على حق ، عندما نادينا من البداية بأن يكون الدستور أولا. 
البرلمان القادم، إذا مرت الانتخابات على خير، سيكون معظمه من الفلول الذين ضمتهم أحزاب مبارك التي كانت تدعي المعارضة، والسؤال هنا: هل هؤلاء هم الذين يضعون دستور مصر؟، لكن الأمر الأكثر مرارة ليس في هذه الإجابة فقط، حيث تشترط وثيقة السلمي، أن اللجنة التي ستضع الدستور سيكون فيها 20 في المائة فقط من البرلمان، والبقية يتم تعيينهم من الهيئات الحكومية التي لا زال الفلول يسيطرون عليها حتى الآن.
ليبيا فهمت الدرس على الفور، وتصرفت كما تتصرف أي ثورة، وأي حكومة انتقالية تحترم دماء شهدائها، بأن أعلنت بأن الدستور أولا؛ حيث أعلنت اختيار رئيس حكومة جديد للفترة الانتقالية هو عبد الرحيم الكيب الذى تولى بالانتخاب بين أعضاء المجلس الوطنى الانتقالى على أن تكون الفترة الانتقالية 8 أشهر، وهى فترة تأسيسية يتم خلالها وضع دستور جديد للبلاد، وبعدها تجرى الانتخابات العامة بعد تحديد شكل الدولة بالدستور.
يعنى الدستور أولا هو مشروع بناء ليبيا الجديدة، وقد تطول الفترة الانتقالية فى ليبيا، للجدل الذى سيثار بين القوى السياسية التى شاركت فى الثورة لكن فى النهاية هناك اتفاق تم إنجازه عبر الدستور أولا ثم الانتخابات بعد ذلك، وهو الأمر الذى نجح فى تونس وجرى انتخاب مجلس تأسيسى لوضع دستور للبلاد فى المرحلة الانتقالية الثانية قبل الانتخابات العامة وتحديد شكل الدولة.
ويبدو أن ليبيا تعلمت من تونس أن الفترة الانتقالية تعنى وضع دستور جديد للبلاد تمهيدا لانتخابات عامة، وأن ذلك هو الأساس لبناء الدولة الحديثة بعد سنوات طويلة من القهر والديكتاتورية وتجريف المجتمع.
ولم تفعل ليبيا كما فعلت مصر فى فترتها الانتقالية التى لم يتم فيها، إنجازات اللهم إلا قليل بعيدا عن الذين يديرون شؤون البلاد، فقد جرى حل الحزب الوطنى الذى كان قد أيد النظام المخلوع فى فرض هيمنته على المجتمع باستخدام جميع أدوات الدولة من الداخلية وقواتها وأمن الدولة حتى وزارة الخارجية ودبلوماسييها فى الخارج، فضلا عن الترويج لمشروع التوريث، وتجنيد العديد من الشخصيات العامة وأساتذة الجامعات وكبار الموظفين ورؤساء تحرير الصحف الحكومية فى خدمة هذا المشروع بترغيبهم فى مناصب أكبر ومكافآت،  وتسهيل الاستيلاء على المال العام وأراضى الدولة، والتحكم فى أرزاق الناس.
وقد جرى حل الحزب بحكم قضائى، وليس بقرار من الذين يديرون شؤون البلاد، رغم أنه كان أحد مطالب الثورة ولم يتم حتى الآن العزل السياسى للذين أفسدوا الحياة السياسية من رموز النظام السابق، والذين عاد منهم الكثير ليتصدر المشهد السياسى، بل والترشح مستقلين أو على قوائم الأحزاب المختلفة للحصول على الحصانة، وليستمر الفساد فى البرلمان القادم.
والذين يديرون شؤون البلاد عندنا ارتضوا باستفتاء «هزلى» على ترقيعات دستورية، كان قد طرحها مبارك المخلوع قبل أن يرحل، ووجدوا رجالا وقوى يشجعونهم على ذلك، بدلا من إعمال أهداف الثورة التى رفعها الثوار فى التحرير وميادين مصر بوضع دستور جديد للبلاد قبل أى انتخابات. ولنفاجأ أن الاستفتاء على الدستور -كما قال قيادات فى المجلس العسكرى- بأنه كان على شرعية المجلس العسكرى فى إدارة شؤون البلاد، فقد سعى الذين يديرون شؤون البلاد للبحث عن شرعية لوجودهم فى إدارة شؤون البلاد عبر استفتاء هزلى تنازلوا فيه عن مطالب الثورة، ورغم أن الناس جميعا وثقوا فيهم، وطالبوهم بإدارة شؤون البلاد قبل أن يتخلى مبارك عن السلطة بإجبار من الثوار، لكن للأسف الشديد تمر المرحلة الانتقالية دون أى إنجاز يذكر فى بناء الدولة، بل العكس ما يحدث الآن من فوضى فى الشارع وعدم استقرار الأمن حتى الآن، رغم مرور ما يقرب عن 9 أشهر، ولا أحد يحاسب أحدا من المسؤولين عن الانفلات الأمنى منذ أيام الثورة، واستمراره حتى الآن، ناهيك عن اختيار حكومة ضعيفة، تعيد إنتاج حكومات النظام المخلوع، وتعمل كسكرتارية للمجلس العسكرى، ولم تنجز أى شىء على الإطلاق، لا فى بناء دولة حديثة ديمقراطية أو تحقيق احتياجات الناس ضمن مطالب الثورة بالعدالة الاجتماعية ولم يستطع المجلس العسكرى أو الحكومة حتى الآن استرداد أى أموال منهوبة أو متر أرض من التى جرى الاستيلاء عليها من رجال أعمال وموالسى النظام المخلوع.
وها نحن نسير نحو انتخابات لإنتاج برلمان «مشوّه» بفعل قوى تتصارع على مصالح شخصية والانقضاض على أهداف الثورة فى محاولة لجنى الثمرة قبل أن تنضج، ومن بينها أحزاب وقوى كانت توالس نظام المخلوع، ووقفت ضد الثورة، ولم يكن عندها أى مانع من توريث الحكم، طالما تم الحفاظ عليها.
لقد تعلمت ليبيا من السيئات التى تمر بها الفترة الانتقالية فى مصر، فابتعدت عنها لتبدأ خطواتها نحو بناء ليبيا الجديدة بخريطة طريق واضحة، تعتمد على الأساس، وهو الدستور الذى يضع الشكل الجديد للبلاد.
آن الأوان أن يتحسر المصريون على أجمل ثورة قامت فى التاريخ، ليكون مصيرها ما يجرى الآن من تخبط وارتباك على يد الذين يديرون شؤون البلاد!