كتاب سبر

في سبيل الحاجة إلى التنوير

“في سبيل الحاجة إلى التنوير”..

هكذا كتبها الفيلسوف إيمانويل كانط على قبره وعند تمثاله هذه العبارة الشهيرة من كتابه نقد العقل الخالص :” شيئان يملأن قلبي دوماً بالحبور والإجلال والإعجاب المتجددين المتعاظمين على الدوام كلما أمعن التأمل فيهما ،وهو شعور لا يفارقني كلما أطلت التفكير :السماء المرصعة بالنجوم فوق رأسي والقانون الأخلاقي في ضميري ،إنني أراهما أمامي مباشرة ،وهما يثيران فيِّ المرة بعد المرة الوعي بوجودي “.
 
 كلمات خالدة في تاريخ الفلسفة سطرها هذا الفيلسوف الذي وهب نفسه للعلم تاركاً وراءه  بصمة في تاريخ الفلسفة الثابتة التي تدعو إلى القيمة الأخلاقية فهو يرى أن الحاجة للإيمان والأخلاق ضرورة حتى لو لم يبرهن العقل ذلك ،فكما كان في السماء قانون ،وجب أن يكون في النفوس قانون يضاهيه سمواً ورفعة . لذلك كان الفيلسوف “كانط” مميزاً لأنه شرع في تأسيس فلسفة تحاكي العقل ،أطلق عليها – نقد العقل الخالص- وفلسفة في الأخلاق أسماها (تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق) والتي شهدت ثورة فلسفية  كانت بمثابة النواة التي سبر بأغوارها جميع الفلاسفة ولم يستطيعوا ملامستها حتى الآن .
 
 قال المؤرخ ويل ديورانت :” إن كل الفلسفات لم تكن سوى تطور سطحي يتدفق تحته تيار “كانط” الفلسفي ،القوي الثابتة على نحو أشد عمقاً واتساعاً ،ولا تزل فلسفة  “كانط” حتى يومنا هذا قاعدة لكل فلسفة ” . وإذ كانت فلسفة نيتشه قد انهارت مع النازية ،وفلسفة هيجل مع انهيار الشيوعية ،فإن فلسفة “كانط” للنقد والتنوير مازالت محل دراسة وبحث خصوصاً بعد أن أعلن “كانط” من خلال مقالة له في مجلة برلين الشهرية عن ولادة العقل ونهاية أي وصاية عليه من أي مصدر خارجي وكان هذا أول تعريف يخرج للعالم لمصطلح التنوير  الذي استهدف خروج الإنسان من قصوره الذاتي الذي اقترفه بحق نفسه بسبب عدم استخدام عقله إلا بتوجيه من إنسان أخر ،ويرجع الذنب في القصور الافتقار إلى العزم والشجاعة اللذين يحفزانه على استخدام عقله بالإضافة إلى الكسل والجُبن اللذين يعتبران علة بقاء البعض عاجزين وقاصرين عن اتخاذ القرار بنفسهم طوال حياتهم .
 
 مبدأ التنوير مبني على أساس الشجاعة في استخدام العقل وتوجيهه نحو المعرفة الصحيحة  والعمل المفيد دون التدخل من أطراف خارجية ،وكما جاء بتلخيص الكاتب إبراهيم الحيدري عن التنوير أن هناك شعوبا كبيرة خرجت من مرحلة القصور العقلي وأصبحت تفكر بشجاعة وبصورة مستقلة دون وصاية من الآخرين ،وعلى هذه الشعوب أن تخوض معركة ضد نفسها وضد الآخرين ،وهذا لا يتم إلا بنشر الحرية ،التي هي حق الإنسان في الاستخدام العلني لعقله وفي جميع مجالات الحياة ،وقد حدد “كانط” شرطين أساسيين لكي يخرج الإنسان من قصوره. وهذه الشروط هي في نفس الوقت روحية ومؤسساتية ،أخلاقية وسياسية. أول هذه الشروط هو  الفصل جيدا بين ما يرجع إلى الطاعة ،وبين ما يرجع إلى استعمال العقل ،ونحن أي الشعوب العربية وشعوب العالم الثالث بحاجة لهذا النوع من الفكر والفلسفة التنويرية ،لنتحرر ونجد طريقا نحو مستقبل إنساني أفضل.
 
 والميزة هي في أن النزعة العقلانية الذكية ستستفيد من أخطاء الأوروبيين وتتجنب حالة النكوص ،بل إن فكرا تنويريا يشمل البشر جميعا الآن هو الأمل الأخير في إنقاذ البشرية من ويلات صراع المال والسلطة. فأحد مظاهر انتكاسة الفكر التنويري هي أن الغرب الأوروبي ومن ثم الأمريكي أغرق نفسه والعالم بجنون الحروب  لكن ما يحسب للحضارة الغربية والفكر التنويري أنه أسس على الأقل داخل هذه المجتمعات بذور الفكر الحر الديمقراطي  والعلمي الذي منحهم قوة وثراء هائلا مقارنة بالشعوب الأخرى.
 
 

 

Twitter@AlMujanni

www.almujanni.com