أقلامهم

أفراح الهندال: نتخيل البراغيث فنراها، ونعود إلى كهوف الماضي وننقلها، وكل ما في الأمر «أفكارنا» كيف نشكّلها؟!

أكلوني براغيث البلد!
أفراح الهندال
ثمة شريحة في المجتمع، احتشدت باسم «الأغلبية»، تعتقد أن «البراغيث» تستولي على مؤسسات البلد الكبيرة ووزاراته، وبحره وبرّه وسمائه، وخزائنه المالية الفائضة، وخزائنه الفارغة كذلك لتملأها باستثماراتها والعطايا الممنوحة إليها، لذا تصرخ وتستنكر في الشارع بقوة: «أكلوني البراغيث» ولا بد من إبادتها وترحيلها!
وثمة شريحة أخرى ترى في مرآتها أنها «الأغلبية» أيضاً؛ تعتقد أن «البراغيث» اكتسحت البلد، وأنها تمكنت من امتصاص الحياة في مؤسساته المدنية وأجواء الحرية والنهضة فيه، وامتلأت السماء بطنينها «رغم أنها حشرات عديمة الأجنحة»، لا ترى لها حق المساواة ما دامت تعتاش على البقايا، رافضة أن تغادر الزوايا والهوامش التي «تستضيفها»، تتململ وتتراشق عبارة «أكلوني البراغيث»، لذا وجب إبادتها وترحيلها… أيضاً!
وثمة شريحة أخرى تشكك في «الأغلبيتين»؛ وترى أنه اصطلاح ينطوي على الكثير من المغالاة والتهويل، فالبراغيث- وفق تحليلات أغلبيتها المطمئنة- قضت على عقولهما، فـ»لمَ ضجيج الساحات؟ ولمَ مهاترات الاحتشاد؟»، «أكلوني البراغيث» هي العبارة التي ترددها كلما طالعت صحيفة أو قناة إعلامية لهم… لذا ترتئي الحل بإغلاق منابر التعبير الخاصة بالبراغيث جميعا… وإبادتها وترحيلها!
لنفترض وجود البراغيث فعلاً في مكان ما، مكان منعزل بعيد عن أولئك كلهم، هل يستلزم الحل الصراخ بـ»أكلوني البراغيث» أو الاتصال بجهات تشبه مكافحة القوارض؛ إنها موجودة في كل مكان ما دامت العقول تترصدها وتراقبها بحذر، تركّز في الأنحاء فتلمحها، تحوّل كل صغير وعابر وأي محاولة للعيش أو الحراك إلى برغوث ضخم، يتقافز باحثاً عن دماء جديدة لامتصاصها والاعتياش عليها، هي الخدعة البصرية لا غير، أو يمكن تسميتها في صورتها التراجيدية من حولنا: الخديعة المجتمعية! خديعة العنصرية الكامنة في البشر، التي حولت ثقافاتهم حلبة للصراع بين إبدالات متعددة، سمات طبيعية تصدرت قائمة الامتيازات من خلال: الجنس، اللون، الاعتبارات الجمالية، النسب، مكان الإقامة، مصدر الرزق صنعة كان أو غنيمة أو عطايا… إلخ، وهكذا تتوالد الأحكام تباعاً، تتشكل منسجمة تارة، ومتناقضة محدودة الأفق متشددة وصارمة تارة أخرى، كلها نتاج الخديعة المتقافزة… كبرغوث لا يموت!
ما يباغت هذه التشبيهات التي أسردها؛ حقيقة علمية مفادها أن «برغوث البشر- «الحشرة» في الأصل برغوث الثعلب والغَريْر «حيوان ثديي قصير القوائم»، انتقل إلى الإنسان عندما سكن الكهوف، ألا تمد هذه المعلومة لسانها قائلة: «أيها الإنسان داؤك منك وفيك»؟
نتخيل البراغيث فنراها، ونعود إلى كهوف الماضي وننقلها، نستأمنها الظلام فيرهبنا توالدها، وكل ما في الأمر «أفكارنا» كيف نشكّلها؟!
***
رجل عربي قديم هو قائل «أكلوني البراغيث»، لم ترد عبارته في لغة عامة العرب؛ لأنها لو كانت كذلك لقيل: «أكلتني البراغيث» أو «أكلني البراغيث» لا غير، إنما جاءت في لغة قبيلته فحسب، قالها ومضى… ولطرافتها سميت لغتهم لغة «أكلوني البراغيث» من دون أن يُباد أو يُرحّل…؛ لنتكيف بالاختلاف الذي تحتفل به الحياة، ولنكتفِ بأن ذلك «مميز» أو «لافت» أو «طريف» دون أن ننفيه، ولنقبل حقيقة العالم الذي يتشعّب متنوعاً ومختلفاً منذ ملايين السنين مورثاً للمستقبل «الأعقل» وحده… حينها سيسْلم الجميع من أكل البراغيث!