كتاب سبر

قصائد شفافة

لا أعرف من الذي أطلق عبارة (أجمل الشعر أكذبه) ولا أعرف متى وأين قيلت وماهي مناسبة قولها وعلى أي ركيزة ارتكزت ، ولكنني أقف طويلا عند كل قصيدة مدح تعجبني تمجّد في أحد طويلي الأعمار فيبهرني تركيب الكلمات فيها وانسياب المعاني وترابط الفكر ، فأبتسم رغما عنّي ليقيني بأن هذا الشاعر قد أخفى وراء هذا الجمال كذباً لا يضاهى ، وأنه قد جاوز في كذبه الحدّ حتى يدخل في خانة الشعر الجميل ، وأنه ترك الصدق وراء ظهره ومدّ يديه إلى طيور الكذب لتأخذه في رحلة إلى عالم الجمال الشعري .

هل هناك أكذب من قصيدة تقال في مدح أصحاب النفوذ ؟! ، وهل هناك أكذب من قصيدة شفافة تنسج بليل لتستر عورةً كشفت في النهار ؟! وهل هناك أكذب من قصيدة هي كشفيع عريان لدى صاحب نفوذ من أجل أن يرجع إليك بالأعطيات والهبات ؟! ، إذن فلتفرحوا بتلك القصائد الكاذبة ، ودعونا نحن نفرح بانكشاف المزيد من عوراتكم التي لا تسترها بالطبع قصائد كذب شفافة .

قال الإمام ابن سعدي رحمه الله في تفسير قوله تعالى عن الشعراء : ( وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ ) “أي : هذا وصف الشعراء ، أنهم تخالف أقوالهم أفعالهم ، فإذا سمعت الشاعر يتغزل بالغزل الرقيق قلت : هذا أشد الناس غراماً وقلبه فارغ من ذاك ، وإذا سمعته يمدح أو يذم قلت : هذا صدق وهو كذب ، وتارة يتمدح بأفعال لم يفعلها ، وتروك لم يتركها ، وكرم لم يحم حول ساحته ، وشجاعة يعلو بها على الفرسان وتراه أجبن من كل جبان” . انتهى كلام ابن سعدي رحمه الله ، وقد تبين لي من خلاله بالفعل أن صفة الكذب ملازمة للشعراء ، وبهذا يكون أشعرهم هو أكذبهم ، ويكون أجمل الشعر أكذبه ، وأن كل شعر يسرق الألباب ماهو في الغالب إلا كذب موزون ومقفى .

من باب (الكذب بالكذب يذكر) ، فلست أرى أكذب بعد الشعراء في مدح المتنفذين من بعض الرياضيين في بلادنا العربية الذين يصلون إلى المباريات النهائية في المنافسات الرياضية وحين يخسرون وتتضح في وجوههم الحسرة وتلمع في عيونهم الدمعة ويبلغ فيهم الحزن مبلغه فيجيبون بصوت مبحوح وحروف لا تكاد تفهم على أسئلة الإعلاميين عن تلك الخسارة ووقعها في نفوسهم قائلين : بأنه لا خاسر اليوم ، وأن الجميع فاز بمصافحة طويل العمر وأن هذه هي البطولة الحقيقية وما سواها بطولات زائفة ! ، ودي أصدق بس قوية قوية ! .

قبل الختام ..

أتدرون من هم الأكذب من أولئك كلّهم ؟!

هم الذين يقطعون الوعود للبدون منذ عقود ويمنّونهم بحلّ قريب ، فأولئك القوم يخجل من كذبهم مسيلمة ! .