كتاب سبر

اللامبالاة .. قاطعوها

إذا لم يقرر المرء مقاطعة الانتخابات احتجاجاً على تعديل الدوائر الإقصائي، وإعتراضاً على سيناريو سقف المطالب الشبيه بالمسلسلات التركية المدبلجه، فقد تستفزه تصريحات أبواق ورعاع السلطة الغير مبالية، وسأبتعد عن أي أوصاف أخرى، إلى المقاطعة اعتراضاً على تقليل هذه التصريحات من قيمة الرأي العام والمشاركة الشعبية.

فكلنا يعلم أن الإصرار على تعديل الدوائر، هو جزء من موقف رسمي أوسع غير معني لا بالمشاركة ولا بالمطالب الشعبية، لأن هناك تمسكاً غريباً بالمنهج السياسي–اللايث البالي بالرغم من المصائب والأزمات التي جلبها على الدولة والأمة معاً.

ومن الواضح أن هناك محاولة رسمية مستميتة، لمنع صعود وتشكيل نخب سياسية أقرب إلى الحس الشعبي وبنفس الوقت تتميز بالكفاءة والمصداقية، فيبدو لي أن الجهات الرسمية معنية تماماً، وبعناد أرعن، على الحفاظ على نظام انتخابي يستمر بإفراز فئة سياسية سهلة الترويض، وسريعة التجنيد، عند الضرورة ضد أي معارض أو معترض على سياساتها وإجراءاتها، فمن الضروري، بل من المطلوب رسمياً، أن jكون هناك طبقة سياسية، مصنَّعة خصيصاً، لاتباع الأوامر وليس لصنع القرارات وتمثيل المصالح الشعبية.

الحجة الرئيسية التي يستعملها بعض دعاة المشاركة في الانتخابات، ومعظم المدافعين عن التعديل الانتخابي هي تقليص عدد نواب حركة الإخوان الإسلاميين، خوفاً من سيطرتهم على البرلمان وبالتالي تغلغلهم المفترض، أو المتوقع في مؤسسات الدولة.

جميع من يعتبر نفسه ليبرالياً أو علمانياً أو شيوعياً حتى، يؤمن تماماً بضرورة فصل الدين عن الدولة، كما لا يؤيد سيطرة أي تيار ديني على نظام الحكم في أي مكان.

لكن في الوقت نفسه، الجميع يعي أن أحد أسباب التمسك باستمرار التعديل الانتخابي، هو ضرب قوة المعارضة وتهمشيها، إن كانت يسارية أو إسلامية، أو ليبرالية، وحتى إذا كانت تعتبر موالية في جوهرها للنظام، لكنها تؤمن بالتشاركية – فحتى هذه الفئة أصبحت تحس نفسها خارج مطبخ القرار، ومستثناة وأحياناً مستعدَية ومعزولة.

بالإضافة إلى أن الفكر الإقصائي، هو المحرك الرئيسي للموقف الرسمي، والذي لا يؤدي إلى تعددية سياسية، بل يخلق انقسامات ويُعَمق شروخات مجتمعية، عدا عن أنها تضعف مؤسسات الدولة لصالح التحالف البيروقراطي الإقصائي الذي يعادي الديمقراطية التعددية.

هذه العقلية القديمة المتجددة تؤمن بتحالفات تكتيكية، مع قوى سياسية، بهدف محاربة قوى أخرى من دون تقديم أي برنامج وطني يتيح الحريات ويضمن المشاركة السياسية.

في الماضي، ومنذ بدأ استخدام الحلول غير الدستورية تحديداً، وإرفاق ذلك بالتدخلات الأمنية-السياسية، تم استعمال الحركة الإسلامية-القبلية لإقصاء وإضعاف الحركات اليسارية والقومية، كجزء من سياسة (فرق تسد)، وفشلت هذه السياسة في تدمير المعارضة الشعبية، التي انفجرت في وجه واضعيها إبان حقبة دواوين الاثنين، فثارت فئات شعبية كانت توصَفّ بقاعدة الموالاة الرئيسية، لكنها صُدِمَت بما اعتَبَرَته تخلي النظام عنها.

حالياً تحاول بعض الجهات الرسمية، أن تتجاوز الأزمة، باللجوء إلى تكتيكات جديدة واستحضار سياسات قديمة، من محاولة مفضوحة لتجريم الحراك الشعبي وتقويضه، إلى محاولة كسب الوجوه القبلية والدينية، وكأن الزمن لم يتغير- فالكثير من مطالب أبناء القبائل اليوم تتقاطع مع مطالب الحراك، و العديد من أبناء القبائل كذلك انضم إلى صفوف الحراك، إن لم يكن بين قادته ومحركيه.

عدا أن زمن الانسياق خلف قيادات تقليدية قد ولى، وأنه حتى لو أرادت الحكومة، أو أي جهة، كسب القيادات القبلية أو الدينية، فلن تمَكِنها الأزمة الراهنة وتردي أوضاع البلاد من أن تلبي وبشكلٍ كاف، لا المطالب الفئوية الضيقة ولا الاستجابة الحقيقية إلى المطالب المشروعة، لأن مثل هذه الاستجابة تتطلب مراجعة حقيقية للسياسات العليا، وتتطلب مشاركة واسعة في عملية صنع القرار.

كما لجأت الجهات الرسمية إلى محاولة واضحة لتشجيع الصعاليك على المشاركة، للتلويح بإمكانية عقد صفقة معهم ، تشمل توسيعاً ضيقاً لعدد مقاعدهم النيابية، على حساب الفئات الأخرى، وفي الوقت نفسه، حض بعض الشخصيات “الواطية”، إلى عقد تحالفات ضد الحركة الإسلامية، أي وفقاً لقول شخصية “واطية” سابقاً : (يريدوننا أداة لضرب الإسلاميين ولن نقبل بذلك) !

المسألة لا تكمن في الاتفاق أو في الاختلاف مع معارضة الإسلاميين، خاصة على أسس فئوية ضيقة، لأن هذه الصفقات في العادة يتم اقتراحها، للهروب من مستحقات التغيير الحقيقي، مما يدل أن لا نية للجهات الرسمية بتبني برنامج إصلاحي، بل بضرب القوى السياسية بعضها ببعض، وتثبيت الوضع القائم .. لكن هذه الجهات لا تعي و لا ترى أن تلك الأمنية مبنية على وهم كبير.

بناء على ما تقدم من المهم مقاطعة الانتخابات، ليس فقط بسبب التعديل الإقصائي للدوائر، بل لأن خيار المقاطعة، هو تعبير شعبي قوي عن رفض الخطة المكشوفة ، لإعطاء شرعية لعملية وسياسة القضاء على فكرة الإصلاح، ودفع الناس إلى الرضوخ إلى الأمر الواقع، في تجاهل وضاح لجوهر الأزمة السياسية الراهنة، وباستهتار مذهل للتداعيات المتسارعة لهذه الأزمة.