سبر القوافي

منسيُّ .. على حافة التاريخ

من تحت لحافه الدافئ، قاوم الشتاء حوله.. واستيقظ باكرًا على غير العادة.

توجّه إلى حمامه الساخن متثاقلًا ليبخّر الكسل المتشبّث بجسدِه.. بعد ان انتهى، مسح البخار المتكثِّف على ملامح وجهه بالمرآة.. وقال: “مازال وجهي كما هو .. ولكن ما الذي تغيّر!؟”.
ارتدى ثيابه الرسمية التي تصنع حاجز هيبته، لتحرم الآخرين من الوصول إليه.. وذهب إلى موعده بالمقهى مع صديقه القديم (المنسي)، المقهى لم يكن قريبًا.. ولكنه فضّل المشي على قدميّه، لعلّ الحركة تقضي على بقايا الخمول العالقة بأطرافه، فهو لم يعتد الاستيقاظ المبكّر، في هذا الطقس البارد.
بمنتصف الطريق شعر بالإرهاق، لم يحتمل تجاوز زحام السيارات والبشر طويلًا، استوقف سيارة أجرة، وطلب من السائق إيصاله للمقهى.. استغرب السائق وقال: “لو سرت على قدميّك ستصل قبل ان تصل سيارتي وسط الزحام، وفّر نقودك سيدي”.
الرجل استاء من سماع من يعارضه.. وقال بابتسامة مصطعنة: “أنا ابحث عن مكان دافئ، وهذا الكرسي يريحني من التعب”.. كان ركوب السيارة يمنحه شعور يسعده، وهو بمعزل عن البشر، وان يصل للمكان الذي يريد بلا جهد.
 بعد ان وصل.. أكرم السائق بالأجرة، ودخل المقهى الذي كان يعجّ بدخان النرجيلة أكثر من مرتاديه.. وجد احدى الزوايا دخانها أقل، وتذكّر بأن صديقه لا يدخّن.. ذهب إلى الزاوية.. وجد صديقه القديم يقرأ الصفحة الأخيرة من احدى الصحف القديمة، وكأنه جزء مفقود من جسد المقهى.. قال له: “كيف حالك؟”.
دون أن يمنحه شعورًا بأهمية وجوده وترحيبه، استمر في في قراءته.. ةقال: “كما تركتني.. (منسيًا)، لا يقيدني الانتظار.. ولا تستعبدني الحرية”.
ابتسم الرجل مستهزءاً وسحب كرسيًا ليجلس عليه.. وقال: “وكيف تستعبدك الحرية؟”.
تجاوز المنسي ما يشغله بين يديه، والتفت للرجل رغم عدم اهتمامه بما يريده منه.. ليقول: “إن المنسيين لا يطرقون أبواب التاريخ بحثًا عن الشهرة، ولا يكذبون لاستعطاف الآخرين.. هم يملكون قرارهم بلا شرط ولا قيد”.
الرجل لم تعجبه تلك الردود، فهي تحبس فيه غروره، وتحبسه بها.. ولكن أراد جوابًا أكثر إقناعًا، ليسأله: “وكيف تستطيع ان تعيش طوال حياتك في الهامش.. متخفيًا؟”.
المنسي طوى جريدته، ووضع يده اليمنى فوق اليسرى حيث الجريدة.. وقال: “إن القلة التي تبحث عن الهامش في الأسفل ليشرح لها ما استشكل عليها في الأعلى.. وتبحث عن المتخفّي خلف السطور ليكشف دوافع القلم.. تكفيني لأعيش حياة صادقة بلا نفاق”.
الرجل استاء من هذه الإجابات الفلسفية المعقّدة، وسلبية البقاء بعيدًا عن البشر التي يراها بين إجابا “المنسي”: “وكيف استطيع أنا بهذه الحال.. أعود للهامش متخفيًا؟”.
المنسي: “أنت اخترت الطريق الذي كتبك فيه غيرك بالخط العريض، عليك أن تعيد صياغة نفسك بخطٍ رفيع ليسعك الهامش والمساحات الضيقة بين السطور”.
الرجل حاول أن يكسر هذا الحوار، وينتقل به إلى حيث بدأ كلامه.. ليسأله: “وكيف أحرر نفسي من قيد الانتظار؟”.
المنسي لم يكن يريد أن يخفف من كلماته، وما يدعو للإبهام في عباراته.. استمر على نفس وتيرته بقوله: “في داخلنا حياة تضيع ونحن ننشدها في وجوه الآخرين، قيد نعيش فيه بانتظار الجمال صورةً بلا روح نحياها”.
كلام (المنسي) كان ثقيلًا على الرجل، وان تظاهر بغير ذلك.. استأذن للرحيل، تركه في زاويته كما كان وحيدًا، ولم تفارقه كلماته.
خرج من المقهى يستعرض إجابات (المنسي)، لم يكن للزمن قيمته ولا حتى الإرهاق، كانت المسافات تأكل بعضُها بعضًا دون ان يضيق بها الطريق، كان للأحرف الجديدة سحر وجود انحسر معها القديم.
رأى نفسه أمام منزله، لا يتذكّر كيف تجاوز زحام البشر والسيارات في طريق العودة، كيف سار كل تلك المسافة دون ان يوقفه التعب. 
شعر بأنه لم يعد ينقصه إلا ان ينزع هذه الثياب ليعود الزمن إلى مصارحته، بعد أن أخرجه من بوابة التاريخ الخلفية منسيًا لا تسعه الأماكن الصغيرة.