أقلامهم

نصح من أجلنا

من المطبة بشرق إلى بيروت ولندن، ومن المدرستين الجعفرية والمباركية إلى الجامعة الأميركية ببيروت وجامعة أكسفورد بإنكلترا، يصحبنا حمزة عباس، أول محافظ للبنك المركزي الكويتي، في رحلته الطويلة على قطار الزمن، يقف في محطات طفولة بشرق وبسوق بن رشدان للأقمشة، حيث دكان والده، إلى بغداد يرحل صغيراً على طائرة مروحية تغرز في رمال المطار القديم، فينزل مع بقية الركاب لدفعها وتقلع بنجاح، بينما يغرز اقتصاد الدولة في رمال الريع فيما بعد، ويترجل الشاب حمزة بعد أن أصبح أميناً على نقود البنك وحال الدولة المالي ليدفعه بالمواقف الصلبة والنصيحة التي اصطدمت بمصالح جماعات نافذة فتهمل النصيحة، وتترك طائرة الاقتصاد منسية في مكانها غارقة برمال الريع والانتشاء باستهلاك لحظات الحاضر وتناسي المستقبل وأبناء الغد.

أشخاص كثيرون نشاهدهم من نافذة قطار حمزة عباس، مات الكثير منهم وبقي بعضهم أحياء يكابدون مرارة نسيانهم ونسيان عطائهم للبلد، تكررت مشاهد صور الراحل جابر الأحمد في قطار زمن حمزة عباس، الراحل يحزم وينظم، ويضبط أمور ميزانيات إدارات الدولة، ولا يسمح بتجاوزها حين كان المسؤول الأول عن أمورها كرئيس للمالية ثم كرئيس للوزراء، ينصت لأهل الرأي والنصيحة، يحرص عليهم وعلى بقائهم على كراسي الإدارة المالية، فهم أهل رأي وخبرة وقبل ذلك هم المخلصون الأوفياء، لم يحشر أغلبهم أيديهم في ثقوب المال العام، ولم يتصدروا على موائد نجوم الظلام السياسي. نشاهد من نافذة قطار حمزة الدكتور فخري شهاب أستاذ الاقتصاد بأكسفورد، وكم قدم هذا الإنسان الكثير لفكرة إنشاء مكتب الاستثمار بلندن والصندوق الكويتي للتنمية، وخدم الدولة بالكثير في الشأنين المالي والاقتصادي، من منا يذكر ولو بلحظة وفاء بسيطة هذا الكبير بعد أن أثقلت السنون الطويلة كاهله؟!

تمر علينا أسماء أخرى في محطات قطار حمزة، منهم فيصل الصالح وحمد العيسى وخليفة الغنيم وحيدر الشهابي وحامد العيسى وسليمان المطوع وفاطمة حسين، وفي بيت الأخيرين يلتقي بحبه ليلى أحمد جاسم ويتزوجها… وغير هؤلاء هناك كثيرون وضعوا بصماتهم العميقة في مسيرة الدولة، وطوتهم صفحة النسيان كالعادة في بلد كثير النسيان.

يحذر حمزة عباس من فقاعة سوق المناخ واقتصاد المضاربات في عالم الريع، ينادي بصوت عال محذراً من الكارثة المالية، لكن لا أحد ينصت، فشركات الوهم تتدفق بأمراضها على جسد الاقتصاد، ومجلس الوزراء وليست وزارة التجارة يبصم على تداولها، وكأن حمزة وغيره ينادون من واد بعيد، ويعترض بعدها على مشاريع التسويات بعد أن انفجرت الفقاعة وأفلست شركات البؤس التي باركها مجلس الوزراء آنذاك… لم ينصت أحد، لم يستمع أهل القرار لشخص دعم قوة الدينار قبل ذلك بقرار “سلة العملات”، فذهبت الأموال لحفنة قليلة من نخب أهل المصالح، واقتطعت الهبر من خاصرة البلد ومستقبل أجياله.

وينصح من جديد محذراً من خلال عمله في لجان مالية، بعد أن ترك البنك المركزي محبطاً من خطورة “شراء المديونيات” بالصيغة التي طرحت بعد التحرير، وأيضاً لم ينصت له أحد، وتم خلط الحابل بالنابل في صفقة القانون، وانتفخت جيوب القلة، وسكتت الكثرة التي فرحت بعطايا بيت المال… قرارات شعبوية من شراء مديونيات إلى منح وكوادر مالية كان يتم طبخها في بيت الأمة وبيت الحكومة، من أجل الاسترضاءات السياسية وشراء الود، ثم تتم صفقات “فاوستية” بين الاثنين على حساب أطفال تم حرق مستقبلهم في أفران الجشع والفساد واستغلال السلطة… لا أحد ينصت… لا أحد يحاسب… لا أحد يتعلم في دروب الأخطاء القاتلة.

ونصحت لكم، هو عنوان مذكرات حمزة عباس، هو لا ينصحنا، فنحن لا نملك القرار السياسي كي نأخذ أو نترك النصيحة، هو كان ينصح من أجلنا… فهل استمع أحد لنصح حمزة عباس؟!