كتاب سبر

تغيير الأسماء وتحسينها

كان العرب يستمدّون معاني أسماء أبنائهم من البيئة التي يعيشون فيها، ولأنّ بيئتَهم صحراويةٌ قاسية، ورِزقهم قائمٌ على الغزو والرعي جاءت أسماؤهم غريبة إلى حد ما، وقد قال القلقشندي في (صبح الأعشى) إن «الغالب على العرب تسمية أبنائهم بمكروه الأسماء ككلب، وحنظلة، ومُرّة، وضرار، وحرب، وما أشبه ذلك.. وتسمية عبيدهم بمحبوب الأسماء كفلَاح، ونجاح، ونحوهما.. والمعنى في ذلك ما حُكي أنه قيل لأبي الدّقيش الكلابي: لِمَ تسمّون أبناءكم بشرِّ الأسماء، نحوُ كلب وذئب، وعبيدكم بأحسن الأسماء، نحوُ مرزوق ورباح؟ فقال: إنما نسمّي أبناءنا لأعدائنا، وعبيدنا لأنفسنا.

يريد أن الأبناء معدّة للأعداء، فاختاروا لهم شرّ الأسماء، والعبيد معدّة لأنفسهم فاختاروا لأنفسهم خير الأسماء». كما ذكر ابنُ دريد في كتابه (الاشتقاق) أنّ من أسماء العرب ما سُمّي بالسِّباع ترهيباً لأعدائهم، نحوُ: أسد، وليث، وفِراس، وذئب، وسِيد، وعملّس، وضِرغام، وما أشبه ذلك، ومنها ما سُمّي بما غَلُظ وخَشُن من الشجر تفاؤلاً أيضاً، نحوُ: طلحة، وسَمرة، وسَلَمة، وقَتَادة، وهَراسة.. كل ذلك شجرٌ له شوك وعضاهٌ، ومنها ما سُمّي بما غلُظ من الأرض وخشُن لَمْسُه وموطِئه، مثل: حجر، وحجير، وصخر، وفِهر، وجندل، وجرول، وحَزْن، وحَزْم. ومنها أنّ الرجل كان يخرج من منزله وامرأته تَمَخَّضُ، فيُسمّي ابنه بأول ما يلقاه من ذلك، نحوُ: ثعلب، وثعلبة، وضَبّ، وضَبّة، وخزز، وضبيعة، وكلب، وكليب، وحمار، وقرد، وجحش، وكذلك أيضاً يُسمّي بأول ما يسنح أو يبرح له من الطير، نحو: غراب، وصرد، وما أشبه ذلك.. ورُوي أن وائل بن قاسط خرج وامرأته تمخض، وهو يريد أن يرى شيئاً يُسمِّي به، فإذا هو ببَكْر قد عرض له، فرجع وقد ولدت له غلاماً، فسمّاه بَكْراً، ثم خرج خرجة أخرى وهي تمخض، فرأى عنزاً من الظباء، فرجع وقد ولدت غلاماً فسماه عنزاً.. ثم خرج خرجة أخرى، فإذا هو بشخيص قد ارتفع له ولم يتبينه نظراً، فسمّاه الشخيص.. ثم خرج خرجة أخرى وهي تمخض، فغلبه أن يرى شيئاً، فسمّاه تغلب.

وما زالت هذه الثقافةُ في التسمية دارجةً إلى زمن قريب، فيسمّون على الأجواء، كوسمي، ووسميّة، ومزنة.. أو على المَتَاع، كنِجر، ومِحماس، وصاهود.. أو على الطير، كعقاب، وصقر، وعصفور.. إلى أن جمعت الحياةُ المدنيّة الناسَ بشتّى ثقافاتهم، وصارت الأسماءُ القديمة غريبةً لا تناسبُ الحياةَ الجديدة، بل أصبحتْ موضعَ تندّرٍ وسخرية، فتغيّرتْ ثقافةُ كثيرٍ منهم في التسمية، فحسّنوا أسماء أبنائهم، إلا أنَّ عادةً درجتْ عند بعضهم في العصور المتأخرة كانت تَحول بينهم وبين تحسين أسمائهم، وهي ما أُسمّيه بظاهرة (إهداء الأسماء)، وهي أنَّ الرجلَ لا يسمّي أبناءه إلا بأسماء أهْلِهِ، وقد تمكّنت هذه الظاهرة حتى لم يعد للرجل خيار في التسمية، وصار يُكنّى باسم أبيه قبل أن يتزوّج، فهو أبو خالد إن كان أبوه خالداً، وأبو صاهود إن كان أبوه صاهوداً! فلم تنقطع الأسماءُ الغريبة بسبب هذه العادة التي تفرض تسميةَ كلِّ مولودٍ على والد.

كما أن ظاهرة (إهداء الأسماء) أفقدت الاسمَ قيمته، إذ أنَّ الغرضَ منه التعريف، وعندما يُسمّي كلُّ رجلٍ ابنَه باسم أبيه ستتكرّرُ الأسماءُ في العائلة إلى أنْ يلتبس اسمُ الرجل واسم أبيه -وجده أحياناً- باسم قريبه، فتجد أحدهم اسمه -مثلاً- محمد علي محمد، واسم قريبه مثل اسمه، وهنا سيضطرّون إلى نَبْزِ أحدهما بلقبٍ -قبيحٍ غالباً- أو ربما إلى تسميته باسم أُمِّه ليميّزوه عن الآخر، فهذه العادة ضارّة حتى في الأسماء الحسنة.

وظاهرة (إهداء الأسماء) لم يكن معمولاً بها قديماً، ومن يُجيل النظرَ في أسماء العرب القدامى سيدرك ذلك، بل إنّ في القرآن ما يُعارض هذه العادة، ويميّز المخالفةَ في التسمية وعدمَ التكرار، وهذا ظاهرٌ في قوله عزّ وجل: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَلْ لهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا}.
والإسلام يدعو إلى تحسين الأسماء، وثبتَ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغيّر الأسماء القبيحة إلى أسماء حسنة، وقد أورَدَ الإمامُ الحسن بن محمد الصّاغاني (ت ٦٥٠هـ) في كتابه (نقعة الصديان فيمن في صُحبتهم نظر من الصحابة وغير ذلك) فصلاً في الذين غَيّر النبي صلى الله عليه وسلم أسماءهم، وعددهم خمسةٌ وستون، منهم -على سبيل المثال- رجلٌ اسمُه أسْوَد، غيّرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم اسمَه إلى أبيَض، وغافِل غيّره إلى راشد، والعاصي إلى مُسْلِم، وقَلِيْل إلى كَثير.. وكان يغيّر الاسم المُكرّر وإن كان حسناً، كتغييره اسمَ ابنِ أخي خالد بن الوليد الذي كان اسمُه: الوليد بن الوليد بن الوليد بن المغيرة، فغيّره إلى عبدالله. وكان صلى الله عليه وسلم يتفاءل بالأسماء الحسنة، وقد روى أبو داوود أن النبي إذا بعث عاملاً سأل عن اسمه، فإذا أعجبه اسمُه فرِح به، ورُئيَ بِشْرُ ذلك في وجهه، وإن كَرِهَ اسمَهُ رُئيَ كراهيةُ ذلك في وجهه، وإذا دخلَ قريةً سأل عن اسمها، فإن أعجبه اسمُها فَرِحَ، ورُئيَ بِشْرُ ذلك في وجهه، وإن كَرِهَ اسمَها رُئيَ كراهيةُ ذلك في وجهه. وعندما أرسلتْ قريشٌ سهيلَ بن عمرو في صُلح الحديبية تَفاءلَ النبي صلى الله عليه باسمه وقال لأصحابه: «لقد سهُل لكم من أمركم». وسار مرةً في طريقٍ بين جبلين فسأل عن اسميهما، فقيل له: هذا اسمه فاضح وذاك اسمُه مُخزي، فغيّر وِجهَتَه ولم يسِر بينهما. ورُويَ أنه قال: «إذا بعثتم إليّ رجلاً فابعثوه حسَنَ الوجه حسَنَ الاسم». وعلى هذا كان أصحابه ومن بعدهم من العلماء، بل إن عمر بن الخطاب ذكر أمراً مهمّاً، وهو أنّ الناس يحترمون صاحب الاسم الحسن قبل أن يعرفوه، يقول رضي الله عنه: «أحبُّكم إلينا ما لم نرَكم أحسنكم اِسماً، فإذا رأيناكم فأحبُّكم إلينا أحسنكم خُلُقاً، فإذا اختبرناكم فأحبُّكم إلينا أصدقكم حديثاً وأعظمكم أمانة». وحين أُشير عليه بتولية رجلٍ اسمه (ظالم بن سرّاق) قال: «لا حاجة لنا فيه، هو يظلم وأبوه يسرق!»، وحول تأثير الاسم على صاحبه يقول ابنُ قتيبة: «وقد يقدح في الحسَنِ قُبْحُ اسمه، كما ينفع القبيحَ حسنُ اسمه، ويزيد مهانةَ الرجل فظاعةُ اسمه، وتُرَدُّ عدالةُ الرجل بكنيته ولقبه». ومن ذلك أن رجلاً يُكنّى (أبا الكويفر) شهد عند القاضي شريح فردّ شهادته، وقال: لو كنتَ عدلاً لم ترضَ بها، وردَّ آخرَ يُلقّب (أبا الذبّان) ولم يسأل عنه. ويروى أن رجلاً شهد عند إياس الذكي فقال: ما اسمك؟ فقال: أبو العنقز (والعنقز ذَكَر الحمار) فلم يقبل شهادته لقُبح كنيته.
فالاسم له تأثيرٌ بالغ في صاحبه نفسيّاً واجتماعيّاً؛ ولهذا يجب على العاقل أن يُحسنَ أسماءَ أبنائه حتى لا يؤذيهم طول حياتهم، فيجتنب في التسمية ما كان معناه قبيحاً أو نطقه غريباً، وألّا يُجامل في ذلك، وألّا يتبع عاداتٍ غريبة ما أنزل الله بها من سلطان، فما كلُّ ما يُورَث من الآباء والأجداد صحيح، فإذا رأى عادةً سيئة قد تفشّتْ فعليه ألّا ينجرف معها، وأن يرجع إلى الدِّيْن والعقل، وتسميةُ الأبناءِ بأسماء قبيحة ينهى عنها الدينُ، ولا يقبلها العقلُ. كما يجب على مَن ابتُلي باسمٍ قبيح أن يغيّره، وهذا من المروءة؛ لأنه لا يليق بالعاقل أنْ يُحسن لباسَه ومظهره ويترك شيئاً أهمّ من هذا كلّه وتأثيره أبعد، فالاسم يسبقه في كلِّ مَحفلٍ ومشهد، ويحمله أبناؤه وأحفادُه من بعده.

د. عبدالله غليس

عضو مجلس إدارة رابطة الأدباء الكويتيين، رئيس تحرير مجلة البيان.

4 تعليقات

أضغط هنا لإضافة تعليق