سبر القوافي

تذكير المرأة وتأنيثها في القصيدة الواحدة

من الظواهر التي لا تخفى في الشعر العربي أن لفظ المحبوبة يأتي مذكّرا في بعض القصائد ومؤنثا في قصائد أخرى؛ والشاعر عندما يأتي باسم المرأة صراحةً أو يؤنّث أوصافَها فهذا الأصل، وعندما يصف المرأةَ بأوصاف مُذكّرة نحو: الحبيب، وأخو البدر، وقمر الزمان، وما شابه ذلك.. ثم يحيل على هذه الأوصاف بضمائر مطابقة فهذا سائغ وشواهده كثيرة ولا إشكال فيه، لأن المرأة تُـحمَـل على معنى (الإنسان) أو (الشخص)، الإشكال عندما يُـذكّـر الشاعرُ المرأةَ ويؤنثها في قصيدة واحدة، كأن يأتي باسمها ثم يخبر عنه أو يصفه بمذكّر، أو يحيل عليه بضمائر مذكرة، أو العكس.. وهذا نادر في الشعر الفصيح، وأكثر العلماء يجيزونه لضرورة الشعر، فيقدّرون التذكير لـ(شخص) المرأة لا لاسمها أو وصفها المؤنث الذي ورد في القصيدة، ومثال ذلك قول الشاعر:
قامتْ تُبكّيه على قبرهِ ** مَن ليَ مِن بعدكَ يا عامرُ
تركتني في الدار ذا غُربةٍ ** قد ذَلَّ مَن ليس له ناصرُ
فحكى عنها أنها قالت: (ذا غربة)، وكان حكمها أن تقول: (ذات غربة)، لكنه رد الكلام إلى معنى الإنسان. ومثله أيضا قول الشاعر:
وكان مجني دون من كنت أتقي ** ثلاث شخوصٍ كاعبان ومعصر
وحكم العدد هنا التأنيث (ثلاثة) لأن المعدود مذكر، ولكنهم أوّلوا (الشخوص) على (النفوس)، وقيل: لمّا كانت الشخوص شخوص نساء أنث العدد.
وأما تذكير المؤنث المجازي في الشعر فكثير، وهم يحملونه على معنى الشيء أو الأمر أو ما يرونه مناسبا للمعنى، ومن ذلك قول الأسود بن يعفر:
إن المنيّة والحتوف كلاهما ** يوفي المخارم يرقبان سوادي
وقد عللوا تذكيره لـ(كلاهما) بأن المعنى إن المنية والحتوف أمران أو شيئان.
ومن ذلك أيضا قول رؤبة:
فيها خطوطٌ من سوادٍ وبلق ** كأنه في الجلد توليع البهق
قال أبو عبيدة: قلت لرؤبة: إن أردتَ الخطوط فقل “”كأنهن” أو “كأنها”! فضرب بيده على كتفي وقال: كأن ذلك.
ومما يروى في هذا قول رويشد الطائي:
يا أيها الراكب المزجي مطيتهُ ** سائل بني أسدٍ ما هذه الصوت
وقد فسّر بعض النقّاد تذكيره للصوت بعد (هذه) بأنه أراد به الصيحة والجلبة.
ومثله قول حاتم:
أماوي قد طال التجنّب والهجرُ ** وقد عذرتني في طلابكم العذرُ
الذي قالوا إنه يريد بالعذر: المعذرة.
ومنه قول الأعشى:
أرى رجلا منكم أسِيْفاً كأنما ** يضمُّ إلى كشحيه كفّـاً مُخضّبا
فوصف الكف بمذكّر وهي مؤنثة حملا على (العضو). ويشبهه قول طفيل الغنوي:
فيهنّ أحوى من الربعي حاذلةٌ ** والعينُ بالإثمد الحاريّ مكحولُ
فأخبر عن العين بمذكّر وهي مؤنثة. ومثله أيضا قول امرئ القيس:
بَرَهْرَهَةٌ رخْصَةٌ رُؤدَةٌ ** كخُرْعوبةِ البانةِ المُنفطرْ
وهذا كله ضرورة يجبرهم عليها الوزن أو القافية. وقد يُحمل الكلام على المعنى في غير شعر ولكنه نادر جدا، كالذي حكاه الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء، قال: سمعت رجلا من اليمن يقول: فلان لغوب [أي أحمق]، جاءته كتابي فاحتقرها، فقلت له: أتقول: جاءته كتابي؟! قال: نعم، أليس بصحيفة؟!
هذا فيما يتعلق بالشعر الفصيح، أما الشعر الشعبي فإن كثيرا من شعرائه يذكّرون المرأة ويؤنثونها في القصيدة الواحدة بلا ضرورة، ووصفهم لها باللفظ المذكّر كثير جدا، كقولهم: يا وليفي، يا أدعج العين، يا زين، يا بوثمان، والترف، والمجمول، وما شابه ذلك.. ثم يحيلون على مثل هذه الألفاظ بضمائر مؤنثة، كقول الهزاني: (فأنا لمجمول الحلايا توليت) ثم قال في شطر يليه مباشرة: (قامت توادعني بشهرٍ يصومون)، وكقول أحمد الناصر:
أنا لي صاحب خده ورى الشيلة كما البرّاق
بعرض المزنة الي مثل شمس الظهر بارقها
خلقها الله وزيّن خلقها وأخلاقها الخلّاق
قليلٍ جنسها في جيلها سبحان خالقها
وهو هنا ذكّر (صاحب) ثم أحال عليه بضمير المفرد المذكر في قوله (خده)، وفي البيت الذي يليه أحال بضمير المؤنثة فقال: (خلقها الله)، و (زيّن خلقها).. وبالإمكان تقدير محذوف لهذه الضمائر المؤنثة، ولكن ما الذي دعاه -هو وغيره- إلى مثل هذا حتى أصبح ظاهرة في الشعر الشعبي؟
أظن أن الشاعر يخفي اسم محبوبته لسبب اجتماعي أخلاقي، صيانةً لها وخوفا على نفسه وعليها.. فيأتي بوصفها مذكّرا، ثم إن أحال -أو أخبر أو وصف- بمذكّر فهو على اللفظ المذكور، وإن أحال بمؤنث فهو على محبوبته التي في ذهنه، ثم استشرت هذه الظاهرة في شعرهم قديما، وهي تكاد تنعدم في شعر الشباب الآن. ورأيي أن يجتنبها الشاعر ما دام في حلٍّ من الوزن والقافية، فإن أجبره الوزن أو القافية فيجوز له ذلك بحمل اللفظ على المعنى أو بتقدير محذوف.