أقلامهم

في تعليق على الحالة المالية للدولة .. بودي يدق ناقوس الخطر القادم

جاسم بودي

مريحة اليوم … مخيفة غدا !

من دون الدخول في لغة الأرقام، على أهميتها، صار معروفا أن الميزانية العامة للدولة حققت فائضا مهما للعام الحالي. هذا الفائض رآه البعض مبررا لإطلاق حملات إنفاق في مجالات متعددة واعتبره البعض الآخر كافيا للركون إلى الوفر والقول بأن المستقبل محصن عافيا نفسه من التفكير والتدبير… ومع ذلك نرى أن الحالة المالية للدولة مريحة على المدى القصير ومخيفة على المدى الطويل.

الرواتب تلتهم البند المتعلق بالإنفاق إضافة إلى التدخل الدائم لدعم سلع وقطاعات، ثم تأتي المطالبات السريعة الارتجالية التي تحدث خللا جوهريا في بنية الموازنة وتهدر كمية مهمة من الوفر من دون رؤية ولا تخطيط. وإذا سألت أي اقتصادي مبتدئ في كيفية توسع بنود الإنفاق هذه فسيقول إن ذلك لا يحدث إلا في الكويت اللهم ادم عليها نعمة الخير والوفرة.

والنفط يشكل تقريبا المصدر الأوحد المعتبر للدخل، فموارده تصرف الرواتب وتملأ الصناديق الاستثمارية وتدير عجلة التنمية وتضخ سيولة إلى مشاريع التجارة في الخارج. كل شيء قمنا به تقريبا تفرع من هذا المورد الذي يعتبر بحق شريان حياة الدولة والمجتمع.

بند النفقات يتضخم لكنه لم يخل بالوفر الذي تحقق العام لأن باب الموارد توسع نتيجة ارتفاع أسعار النفط. وهذا الأمر يجب أن يكون واضحا لكل من اعتبر أن الحالة المالية للدولة تسمح بمد الأرجل إلى خارج البساط. هذا التوازن سيختل طبعا إذا تراجعت أسعار النفط خصوصا أن سياسة الإنفاق بلا ضوابط صارت جزءا من شعبية يتطلع اليها نائب وغاية يتمناها مواطن ومطلبا لمديون ورغبة لموظف. يصرخ هذا السياسي بأعلى صوته مهددا بالويل والثبور وعظائم الأمور إن لم تسقط الدولة كل ديون المواطنين وهو لم يتعب نفسه حتى بقراءة أثر هذه المطالبة على الميزانية ولم يدرس الواقع والوقائع. وفي النتيجة يتضح أنه «يبيض» ديونه السياسية بهذه الدعوات فينسى الناس ومطالبهم وينسى وعوده ما دامت «الأفراح» في دياره عامرة. ويذهب آخر إلى إقحام الرؤية الشرعية في الموضوع، ويفصل ثالث بين الدين وفوائده… والنتيجة أن الوعد كوعد يؤسس لمزيد من قيم التكاسل والاعتماد والتواكل، وأن غياب الحل يؤسس لمزيد من الأسى والإحباط، وأن حضور الحل كما يريده المزايدون يؤسس لمزيد من الخلل المالي والاقتصادي والاجتماعي.

أما بالنسبة إلى الكوادر واتساع أحجامها، فللمسألة وجهان. الأول أن بعض الكوادر أقر بضغط سياسي ونقابي من دون دراسة كافية وبالتالي كانت كلفته أعلى على الخزينة العامة، والثاني أن صغار الموظفين أو الموظفين الذين لا نقابات أو جمعيات وراءهم ولا ظهر سياسيا لهم ظُلموا لغياب الكوادر. طبعا المقام هنا ليس للتفصيل وإعطاء الأمثلة وانما ما أوردناه هو نموذج سريع لبعض أوجه الإنفاق غير المدروس الذي صار جزءا من سياسة شد الحبال بين الحكومة والبرلمان فيما الإدارة المالية للدولة هي الضحية الكبرى إضافة إلى ضحايا أخرى سقطت على دروب عدم التكافؤ وغياب التوازن.

نقول ذلك وبعضنا يرى أن حالتنا المالية مريحة جدا. نبتهل إلى الله العلي القدير أن تبقى كذلك، إنما من هو العاقل الذي سيركن إلى الوضع الحالي ونحن لا نعرف من خطط التنمية ومشاريعها سوى شق طرق ورفع جسور وضخ سيولة لإنقاذ شركات مفلسة؟ أين التصنيع؟ وفي الحد الأدنى المشتقات النفطية التي أصبحت في دول أخرى مصدر دخل موازياً للبراميل المصدرة إن لم يتجاوزها؟ وأين الصناعات الأخرى في دولة تملك الأرض والعمالة الرخيصة والطاقة الأرخص؟ أين المشاريع الإنتاجية التي تتجاوز الاستثمار والصناديق؟

الأجوبة معروفة…

ما زلنا نتحدث عن وضعنا المالي اذا تراجعت أسعار النفط. أما إذا بدأ العالم في اكتشاف طاقة بديلة وإن على مراحل فلنا أن نتخيل حجم «الراحة» التي ستصيب حالتنا المالية والاجتماعية والسياسية في دولة ما زالت مستشفياتها تستورد أطباء من الخارج ومدارسها تستورد معلمين وإداراتها تستورد موظفين وشعبها يستورد كل شيء من العمالة المنزلية إلى القماش… ويكفي أن من متع الأمان والاطمئنان في واحدة من أغنى دول العالم ألا تنقطع الكهرباء.

كل شيء بحاجة إلى ترشيد حتى وإن كانت حالتنا المالية التي أعلنتها الحكومة الرشيدة… مريحة.