سبر القوافي

خطأ معماري

 تأبى الخفايا إلا أن تخرج ما في داخلها.
فتحتُ النافذة أتأمل منظر المطر المنهمر بكثافة، استيقظت من نومي المتقطع، هذه ليلتي الأولى في مسكني الجديد، قصر  في أهم الأحياء الراقية في المدينة، المطر يتساقط بكثافة راسماً لوحة جمالية ممزوجة بأضواء إنارة الشارع كأنها حبات لؤلؤ تلامس أرضية الإسفلت الأسود.
تمنيت لو أستطيع أن أستلقي على ظهري عرياناً في هذا الشارع لأطفئ ناراً أوقدت داخل أحشائي، كنت أشعر في أيامي الأخيرة بكرة نار تتمركز في داخلي، وأحياناً كنت أتوهم بروزاً في معدتي يقلقني، لولا تأكدي من صفاتي الذكورية لظننته جريمة هوى. تزامن ذلك مع ما كانت تلتقطه أذناي، شيء ظننته مكبوتاً إلا أنه أبى الخروج.
الآخرون كثر حديثهم عني في الآونة الأخيرة حتى بدأ يقلقني حديثهم، وأصبح كأنه وصمة عار أحملها معي أينما ذهبت، الكلمة الأولى انطلقت ولا أعرف مصدرها، لكنها وصلت لأذني: “أنت رجل فاسد”، وإن كانت الكلمة مجهولة المصدر وإن كانت الكلمة لا دليل عليها، وإن كان لا يقر بصدقها سواي، لكني حاولت التبرُّؤ منها بكل وسيلة ولا فائدة، لقد التصقت بي، أجدها في عيون كل من هم حولي، أجدها بين سطور حديثهم، في غمزهم ولمزهم المشين، وإن لم تقع على ألسنتهم إلا أن طبيعة قلوبهم أبت إلا أن تخرجها: “نعم.. نعم.. أنت.. أنت فاسد نقصدك أنت بالذات”، كان ذلك بسبب الطفرة الاقتصادية التي أصابتني، لمظاهر الترف والبذخ المفاجئ التي حلت علي وأنا ابن الرجل الفقير الذي مات منذ فترة قصيرة.
لا أعرف ألهذه الدرجة هم صالحون أم أنه الحسد؟ كنت أتساءل دائماً أيود أحدهم أن يكون مثلي أو أن يعرف ما هو الطريق الذي أوصلني لما أنا فيه الآن؟ كنت أحس بذلك أحياناً وأنا أمر بسيارتي الفارهة الحديثة وهم يقفون بملابسهم البالية أمام أبواب بيوتهم، وأطفالهم القذرون يلهون بالتراب الذي تكوّم أمامهم، وكنت ألمس نظرات الاشمئزاز تجاهي، وأيضاً نظرات الإعجاب لنوع السيارة التي أقودها، وكنت أتساءل: كيف ستكون النظرات لو فتحوا درج السيارة ورأوا كشف حسابي المصرفي الأخير وعقد القصر الذي اشتريته، مازالت نظراتهم البلهاء تلاحقني حتى أصل إلى بيتي القديم الذي أسكنه مع والدتي.
لم تكن تؤلمني نظرات الآخرين بدرجة كبيرة، أكثر ما كان يؤلمني نظرات والدتي التي تغيرت، حنان بريق عينيها الذي فقدته، أظنها استبدلتها بنظرات الأسف والحسرة، كانت الكلمات التي تسمعها عني قد أسكتتها، تجلس صامتة معظم أوقاتها الأخيرة، قعدت أمامها أخبرها بانتقالي إلى بيتي الجديد، كانت صامتة تصوب نظراتها إلى يدي وقد شبكتهما، أقلقتني نظراتها إلى يدي كأنها ترى فيهما دليل فسادي أو أنها كانت تشتم فيهما رائحة كريهة، فارتبكت وقمت بوضعهما على فخذي، وهي لا تزال صامتة، فخرجت ولم أعطها عنواني الجديد، خرجت وأنا أشتم رائحة يدي فلم أجد شيئاً. أغلقت النافذة بعدما بزغت شمس أول يوم جديد في هذا القصر، فلبست ملابسي استعداداً لنظرات جيران يريدون التعرف على جارهم الجديد، فأنا الآن إنسان لا ضد لي، لا عار يلاحقني ولا حديث يزعجني، فتحت الباب أريد الخروج لليوم الأول الجديد فأفزعني ما رأيته، جعلني أتراجع للخلف، مما جعل ظهري يلتصق بالباب، كانت حديقة القصر قد طفحت بالمجاري، وكونت بقعة كبيرة من مياه الأمطار التي اختلطت بالقاذورات مع عشب الحديقة الأخضر، فزاد هذا من قرفي، وأحسست برغبة جامحة بالتقيؤ، لكني حاولت ضبط نفسي قليلاً، فقد هم الجيران الجدد بالخروج مع أطفالهم إلى أعمالهم ومدارسهم، فلم أرغب أن يكون أول مشهد معهم بهذا الشكل المقزز، كتمت أنفاسي بوضع منديل على فمي وأنفي، حاولت عبور الحديقة لأصل لسيارتي، لكن أبت القاذورات إلا أن تغزو حذائي وطرف ثوبي الأسفل، فزادت رغبتي بالتقيؤ، وزاد من ألمي نظرات جيراني الجدد وهم يشاهدونني وأنا أتأرجح بمشيتي كأني ثمل أبله مغلق فمي وأنفي بمنديل أبيض، كنت أقفز بين مصطبة وأخرى، منظري مثير للسخرية والضحك، وصلت سيارتي وأخذت هاتف السيارة واتصلت بصاحب البيت الذي اشتريته منه وأنا في حالة غضب شديد، وإذا بصوته البارد يخبرني بأن هناك خطأ معمارياً في القصر، حيث لا يوجد فيه فتحات تصريف للمجاري الخاصة بالحديقة، وقد سجل هذا الخطأ في العقد الذي أبرم بيننا، أغلق الهاتف بعدما أسمعته كلمات التكذيب والتهديد والوعيد، فتحت درج السيارة وأخذت أقرأ عقد بيع القصر، فإذا بآخر بند فيه وكأني أراه للمرة الأولى: لا توجد فتحات تصريف للمجاري الخاصة بالحديقة. وقفت مدهوشاً منحسراً قابعاً في مكاني ونظرات جيراني الجدد تلاحقني وفي يدي هذا العقد اللعين، أمام قصر جميل لا توجد فيه فتحات تصريف للمجاري، ورفعت يدي أمام أنفي أشتم رائحتها من جديد!
عبدالله العتيبي